زيجات الأدباء

ينبثق الحب من كل تفاصيل الحياة، به تتجسد كينونة الإنسان وقدرته على التواصل، والعيش المشترك. قد يبدو للوهلة الأولى أن قصدية الفعل الإنساني قد توصلنا إلى الثناء على الإنسان فقط، لكن ما تحدثه العبارة الصغيرة المتشعبة والبعيدة المدى قد يتجاوز آلاف الكلمات بتأثيرها القوي في أنساق العلاقات الإنسانية. فضلا عن قدرتها على ترميم تصدعات الحياة اليومية، وتشكيل انعطافة جديدة ارتباطا بالوعي والوجود الإنساني.
الحب كلمة صلبة وناعمة في الآن نفسه، لكنها في طلاوتها تجعل الإنسان قادرا على محاربة اليأس وتكسير قيود العزلة، وتجاوز سوء فهم الحياة. والحب كحالة أمل تجعل الأديب أو المفكر مغتبطا للغاية، وندرته قد تجعله عكس ذلك، وربما لهذا السبب فضل غوستاف فلوبير عدم الزواج، رغم أنه صرح في روايته «التربية العاطفية» باسم «ماري آرنو» المرأة التي كان متيما بها، واختار الزواج بالأدب مكتفيا بتوظيف خادمة اهتمت به حتى وفاته. وقدر لهنري دو بلزاك وهو في أواخر حياته أن يتزوج بالبولندية إفيلينا هانسكا التي أحبها عبر الرسائل لسنوات طوال، غير أن زواجه لم يدم أكثر من خمسة أشهر.
ارتباطا بهذا السياق فإن زيجات الأدباء ملتبسة إلى حد كبير، لانها ترتبط بمسارات الحياة الحارقة، علاقة الفيلسوف أو الأديب بزوجته هي علاقة شائكة وصعبة، وملتبسة في الآن نفسه. فليس من الضروري القول إن كل الزيجات هي إقامة في الجحيم، أو إقامة طوباوية في النعيم. لقد عايشت عن قرب تجربة أديب مغربي عانى من اضطهاد زوجته التي أنهت سنوات من إبداعيته بإحراق مكتبته الخاصة ومعها العشرات من الأعمال الروائية والقصصية والبحثية. ويذكرني هذا الحادث بزوجة سقراط السيئة والسليطة اللسان، وهي التي جعلته يهرب من البيت منذ الإشراقة الأولى للفجر ولا يعود إليه إلا بعد الغروب. وكان هذا الوقت كفيلا بمحبة سقراط للصمت رغم شعوره بالندم بالزواج بامرأة على شاكلة زوجته. وهو ما عبر عنه بقوله: «الرجل مخلوق مسكين يقف محتاراً بين أن يتزوج أو أن يبقى عازباً وفي كلا الحالتين هو نادم «.
وعلى غرار هذه الزيجة سيقع أحد أعلام الفكر الفرنسي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين الفرنسي لوي آلتوسير، سيقع هذا الفيلسوف الماركسي الذي ساهم بفكره إلى جانب ميشال فوكو وكلود ليفي ستراوس وجاك لاكان في ثورة 1968. وفي التأثير في كتابات تشي غيفارا وغرامشي. سيقع صاحب« الوقائع» في شرك زوجة عجوز لم تستطع مجاراته في تأملاته الفلسفية، وربما بدافع الحب آثر ألتوسير أن يضع حدا لحياتها حتى ترحل قبل أن تصاب بالشيخوخة القاتلة. وهو ما يمكننا تلمسه في كتابه الأخير المعنون بـ«المستقبل يدوم طويلاً» وهو سيرة ذاتية أبدى فيها ارتياحا لقتله زوجته هيلين كنوع من «الموت الرحيم» بتعبيره. وهي الجريمة التي لاحقته في آواخر حياته حتى بعد خروجه من المصحة وأصبح يلقب بـ«الفيلسوف الذي قتل زوجته» ونسي الكل كتابة الأساس «العودة إلى ماركس».
وفي مقابل هذه الصور الرمادية تبهرنا صورة مشرقة للسيدة عطية الله إبراهيم زوجة الروائي نجيب محفوظ (العربي الوحيد المتوج بنوبل الآداب). التي ساهمت في توفير شروط الكتابة والعناية بالأديب نجيب محفوظ وهي التفاصيل التي كشفها في بعض حواراته الصحافية. بما يذكرنا بزوجة عميد الأدب العربي طه حسين الفرنسية سوزان بريسو التي منذ اللقاء التاريخي الذي وحد بينها وبين طه حسين في مدينة مدينة مونبولييه عام 1915، وهي مخلصة له بشكل أسطوري. لذلك فقد وصفها صاحب «الأيام» بقوله: «صديقتي كانت معلّمتي. بفضلها تعلّمتُ اللغة الفرنسية وتعمّقت بالأدب الفرنسي. وبفضلها أيضا تعلّمتُ اللاتينية وحصّلتُ إجازتي في الآداب، وبفضلها أخيرًا تعلّمتُ اليونانية وتمكّنتُ من قراءة أفلاطون بلغته».
وقد حمل كتابه السير ذاتي المعنون بـ« Avec Toi» تفاصيل زوجة استثنائية لعبت دور المرشد، والطاقة الخلاقة التي جعلت طه حسين يتجه نحو مشاريعه الأدبية والفكرية بثبات. سوزان التي كانت تصف زوجها بصديقها الوحيد كانت عيني طه حسين التي بهما يرى العالم، ويرى مختلف المتون وهو ما عبر عنه بقوله: «بدونك أشعر فعلاً بأني ضرير، لأنني معك قادرٌ على استشعار كل شيء وعلى الاختلاط بالأشياء التي تحيط بي».
شواهد الزوجة الجحيم – في تقديري- قليلة، على عكس شواهد الزوجة النعيم التي نصادفها في تفاصيل العديد من الأدباء والمفكرين. أستحضر هنا تجربة سامقة ساهمت في بلوغ زوجها سدة نوبل للآداب. يتعلق الأمر بزوجة الروائي البرتغالي خوسيه سراماغو صاحب «الإنجيل طبقا لرؤية المسيح»، و«سنة موت ريكاردوس»، وقصة طحصار لشبونة»، و«العمى»، وأعمال روائية آخرها رواية «قابيل» زوجة سراماغو بيلار ديل روي التي استطاعت أن تتوافق مع أكثر الكتاب مزاجية وقسوة ليس لكونه كان ملحدا في مؤمن، بل لكونه لا يقبل بالكثير من الأمور إلا على بصعوبة، منها الحوارات الصحافية، واللقاءات الأدبية. زوجته بيلار ديل روي كانت تقود سراماغو نحو المستقبل سواء في الحفلات الأدبية، أو في لحظة تتويجه في ستوكهولم بجائزة نوبل، بل إنها أسست لسراماغو موقعا إلكترونيا للتخاطب مع العالم مادام الإنترنت وسيلة تواصلية لا مناص منها بتعبير سراماغو. ويمكننا تلمس الأثر الإنساني للزوجة النعيم ونحن بصدد حالة سراماغو في الشريط الوثائقي الذي يحمل عنوان Pilar et Joséالذي يمكن وصفه بوثيقة تاريخية توثق لهذه العلاقة الإنسانية الجميلة والنبيلة لحياة زوجة رائعة تحمل اسم بيلار ديل روي وأديب يحمل اسم خوسيه سراماغو.
الاعتراف النبيل بقيمة الزوجة – الأسطورة- يمكننا تلمسه في سيرة الشاعر السوري محمد الماغوط مع زوجته سنيّة صالح التي أنهكها المرض، وكان الماغوط يقبّل قدميها تعبيرا عن حبه الكبير لها وهي محنتها الصحية المؤلمة. لأن الماغوط كان يدرك أن الحب طاقة لامتناهية مولدة للحياة، بل هو معنى الحياة بتعبير صاحب» الإنسانوية الجديدة» لوك فيري.

٭ شاعر مغربي

زيجات الأدباء

عبد السلام دخان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية