ما يسمى نظام الموجات المتعاقبة التي تتكسر تباعا على الشاطئ يليق بالثقافة أكثر من أي حراك آخر، خصوصا ثقافتنا العربية التي أدخلت مرارا إلى غرف الإنعاش بسبب ما أصابها من الأنيميا، أو فقر خلايا المناعة البيضاء.
ومنذ ستة عقود على الأقل كانت الثقافة التي فقدت التناغم بين موسيقاها وخطاها عرضة لتعاقب موجات ما إن لامست شطآنها حتى عادت، بدءا من الموجة الوجودية التي تزامنت وتداخلت مع موجة قومية صاخبة، بحيث كان المشهد سرياليا، ثم أعقبتها البنيوية التي أسيء فهمها لأنها بنيويات منها الشكلاني والتكويني، تماما كما أن الواقعية واقعيات وليست واحدة فوتوغرافية أو تسجيلية.
وحين ترجمت في عقدَيْ الخمسينيات والستينيات معظم أعمال سارتر وبوفوار وكامو طرأت على الثقافة العربية نوبة من الشجن الوجودي، لم تكن ذات جذور لأنها كانت مجرد ظلال وأصداء فقط، يومئذ وجدت الوجودية من يختزلونها من هواة التعريب إلى انعتاق مطلق من كل القيود، لهذا قُرئت رواية «الغثيان» لسارتر بمعزل عن كتابه الأساس وهو «الوجود والعدم»، تماما كما قُرئت بعد ذلك روايات روب غرييه بمعزل عن الظاهراتية وهوسرل، والروائي الذي استبدل الزمان بالمكان والكائن بالشيء والخارج بالداخل لم يكن يرقص التانغو مع ظله، وهناك مناخات فكرية مبثوثة في الثقافة تمارس نفوذها على النتاج الأدبي، وأذكر أن ناقدا عربيا سخر من كتّاب بدأوا ينشئون نصوصا تصلح للنقد البنيوي، وهنا علينا الاعتراف بأن ما يسمى حرق المراحل قد يليق ببناء ناطحة سحاب أو اللحاق بآخر منجزات التكنولوجيا الخدمية، لكنه لا يصح على الإطلاق مع الأفكار التي يشترط تطورها تطور المجتمعات التي تنتجها، ولو عدنا إلى الوراء عدة عقود حين سادت موجة الواقعية الاشتراكية لوجدنا أن رفوفا مليئة بالروايات والقصص والقصائد قد سقطت عن عمد وليس سهوا من ذاكرتنا.
إنها إذن ثنائية الفاعل والمنفعل، أي ثنائية حجر المغناطيس وبرادة الحديد، ونظام الموجات المتعاقبة التي لا تصل قدر تعلقها بالثقافة أشبه بوجود عتبات ومداخل أنيقة لكنها لا تُفضي إلى بيوت ومناجم المسكوت عنه في حياتنا واللامفكر به، أيضا لم تنقص كثيرا منذ قررت الثقافة الحولاء أن ترى الشرق غربا والجنوب شمالا. وثمة ظواهر تتطلب فك اشتباك فوري في ثقافتنا، منها الخلط بين الأمي والجاهل، لأن الفارق كبير بينهما، لأن الأمي الذي لا يقرأ يبقى في درجة الصفر، ويمتلك قدرا من البراءة بخلاف الجاهل الذي يقرأ ويبشر بما يقرأ حتى لو كان مضادا لكل ما هو إنساني، والجاهل ليس مرادفا بأي مقياس للأمّي، وحين تذكر تقارير التنمية البشرية النسب المئوية للأمية المتفشية في العالم العربي تغفل النسب الأخرى للجهل، فمن يقول إن الأرض لا تدور ويدافع عن أطروحته ليس أميّا، وكذلك من يفسر أسباب القهر والتخلف من خلال مرجعيات علمية. ويمكن التعامل مع ظاهرة الجوائز من هذا المنظور أيضا، فهي رغم نبل النوايا لمانحيها بهدف التشجيع أو شحن الحياة الثقافية الراكدة بمحفزات رمزية ومادية، الا أن استجابة المثقف لهذه المحفزات تحتاج إلى فحص، خصوصا في مجتمعات توارثت أجيالها مقولة تصف الكاتب بأنه الإنسان الذي أدركته مهنة الأدب وما نخشاه أن تتحول الجوائز إلى بوصلة بديلة، بحيث يكتب أدب بشروطها ويكون متأقلما مع حيثياتها بحيث يتجنب كل ما من شأنه أن يحول دون نيلها.
وإذا كانت الجائزة لغة وجذر حكاية هي لمن يجتاز النهر، فإن عدد مستحقي الجوائز هو أضعاف عدد الحاصلين عليها، لكن هناك بعُدا رمزيا يتجاوز المبدع إلى النوع الادبي الذي يكتبه ويشمل بالتالي زملاءه، خصوصا من لا يتقدم منهم بنصوصه إلى أي جائزة. إن الخلل الآن في نسيج ثقافتنا بنيوي لأن السائد والمقرر يحجب الاستثنائي كما تحجب الغابة الشجرة، ولأن النقد باعتباره إفرازا حضاريا معقدا بخلاف الإبداع ينعم بعطلة طويلة وببطالة مقنّعة بالوظيفة أو الصفات فإن القمح والزؤان في إناء واحد، خصوصا بعد أن تكاثرت دور النشر ودخلت إلى الأسواق بلا تقاليد أو ضوابط .
إن أهم ما يحتاج إليه المثقف العربي أو المتورط بهذه الصفة هو القليل من العزلة ليفحص موقع قدميه ومن ثم قدميه ويسأل نفسه لماذا قرر منذ بواكيره أن يعلن العصيان على السرب أو على القطيع؟ وهل كان ذلك بمحض المصادفة أو على طريقة الأعور في بلد العميان؟ أم أنه قرار وجودي يعي التاريخ ليتفهم مكائده والواقع لكي يفارقه؟ ومفارقة الواقع ليست طلاقا أو استقالة وبالتالي اغترابا عن مجمل حركاته، إذ لا بد من مسافة ما تفصلنا عن اللوحة كي نرى أبعادها، لأن الأنف عندما يتفلطح على سطحها لا يرى سوى بقعة داكنة.
المثقف العربي الآن لا يشعر فقط بما سماه سارتر شقاء الوعي بل بشيء من الخجل والرغبة في الاعتذار لأنه ليس هنا وليس هناك، وغربته مزدوجة ومعركته تراجعت من سعيه إلى التغيير نحو إصراره على أن لا يُغيّر وينمذج، فهو يولد منزوع الدور إن لم تكن القابلة الخائنة قد استبدلته بسواه.
٭ كاتب أردني
خيري منصور