التشكيلي السوري مروان قصّاب باشي يغيب إلى الأبد بين تجاعيد الوجوه في أعماله

حجم الخط
0

تتوالى خساراتُ السوريين، وكأنّ الانهيارات لا تصيب البنى المادية فقط، بل حتى المعنوية، فبعد أن خُلعت أوتاد خيام ذاك البلد، باتت رؤوس السوريين عاريةً في مواجهة الريح.
تكاد أيدينا تُشلّ من كثرة تلويحات الوداع، ها هم التشكيليون السوريون وكأنّهم حجارة دومينو يدفع بعضها بعضاً. بالأمس كان نذير إسماعيل هو الراحل واليوم صديقه مروان قصّاب باشي، إسماعيل الذي كان سبباً في بقاء قصّاب باشي في ألمانيا لآخر أيام حياته، فحين أدرك مروان الحنين إلى دمشق ذات مرة وملأ روحه تأنيب الضمير لأنه ترك مدينته وحيدة، نصحه نذير بالعودة إلى ألمانيا «ستكون سوريّاً أكثر هناك»، أدرك قصّاب باشي النصيحة وفهم أن نذير لكثرة ما يحبه يضحي بصحبته، فهو إن أصبح فناناً معروفاً في ألمانيا سيفيد سوريا أكثر من كونه رسّاماً سوريّاً في بلده؛ لم تخذله ألمانيا يوماً وأصبح من أهم الفنانين الألمان (أصحاب الأصول السورية) كما ينتشر عنه في الوسط الفني الألماني، وقد نال وسام الاستحقاق عام 2005 من الفئة الأولى وسُمي «روح ألمانيا» بمناسبة إتمامه سبعين عاماً؛ مع أن ألمانيا لم تكن غايته في شبابه، بل باريس، كعبة الفنون في ذلك الوقت، لكن العدوان الثلاثي 1956 حال دون مراده وذاك لحسن حظه الذي أدركه لاحقاً، فقد وجد أن باريس ما هي إلا دمشق متطورة، وما كانت لتمنحه نَفَساً جديداً كما فعلت برلين في الشمال الأوروبي، باريس كانت لتذكّره بدمشق وتحثّ الحنين في صدره فقط.
بدأ أيامه في برلين عاملاً في معمل لدبغ الجلود وليلاً كان ينصرف للوحاته، حمل هذه المهـــــنة من دمشق وأعانته في غربته… لوحة لمونيه كانت عود الثقاب الذي أشعل الرغبة بممارســـــة الفن وأشعل فتيل شعلةٍ طويلة لم تنطفئ إلا برحيله، جبل وبحر، ورائحة «التربنتين» منحوه لذة إيروسية لم يستطع بعدها إلا الحصول على أدوات الرسم والبدء باستحضار لذته ذاتياً؛ فبدأ التعرف على تضاريس طريق الفن باكراً أولى أعماله لوحة «قرية الجربة» رسمت عام 1947 في عمر 13 سنة.
أعمال قصّاب باشي لم تجلب اللذة له وحده، بل لكل من يراها ويغرق في تفاصيلها، ما جعل المتاحف الأوروبية تتهافت على اقتنائها، وأصبح وجهةً لكثير من الجوائز العالمية، لكنه لم يحفل بهذا كثيراً، وفي داخله رجحت كفة جملة كتبها عنه عبد الرحمن منيف «ينتمي مروان لنوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة». منيف وقصّاب باشي كانا مثالاً على صداقة راقية ضمن الوسط الثقافي، الأمر الذي من الممكن أن يستغربه الكثير من العاملين في هذا الوسط، بعد وفاة عبد الرحمن منيف قررت زوجته سعاد قوادري ومروان طباعــــة هذه الرسائل المتبادلة التي تُعتبر شهادات مهمة عن حركة الفن والأدب في فترة المراسلة التي انقطعت خلال الغزو الأمريكي للعراق فقط، ليكسر عبد الرحمن الصمت شارحاً السبب: الحزن والإحباط، معتصماً بالحكمة الشعبية «إذا ما خربتْ ما بتعمر»، ويستشهد مروان بقول سعد الله ونوس «لقد حكم علينا بالأمل».
تتوزّع أعمال الفنان إلى أربع مراحل، المرحلة الدمشقية، مرحلة التشخيصات البرلينية الأولى، المرحلة الثالثة مرحلة الوجوه التي تغيّر اسمها ليصبح (الرؤوس)، وقد استمرت تقريباً حتى عام 1976، في الفترة ما بين 1976 – 1978 تأكّد قصّاب باشي أنه قال كلّ ما يمكن قوله في هذا المجال وأي لوحة إضافية ضمن هذا السياق ستكون كذبةً فنيّة؛ بعد مرحلة الوجوه التفت مروان إلى الطبيعة الصامتة ورسم الدّمى، «الملاحظ بالطبيعة الصامتة أننا إن أمعنا النظر فيها نجدها مجازاً أو موجزاً للارتباط بذكرى الأم، يعني بذكرى الرحم» كما ذكر قصّاب، سحر الشرق أن ترى الشيء باستمرار بعين جديدة ورؤية جديدة.
في الفترات اللاحقة من رسم الدمية ظهرت روح جديدة في رسمه الرأس، وتعامل معه الفنان وكأنه شجرة ثابتة عمرها آلاف السنين جــــذرها في الأرض، في التراب، صاعدة نحو السماء وعلى جذعها ندبات الزمن قصة الزمن حديث الزمن.
أعمال الفنان قصّاب باشي تُنسب لعدة مدارس بعضهم من يجد أنها انطباعية مع مسحات تجريدية، وآخرون يصنفون أعماله ضمن التعبيرية، لم يهتم مروان لذلك ولم يعنه تصنيفات النقاد الأكاديميين لأعماله تحت جناح التعبيرية الوحشية وتصنيفه مع الإسباني فرانشيسكو غويا والنرويجي إدوارد مانش. رسم وجوهاً كثيرة لأشخاصٍ يسكنون خياله وفي الوقت نفسه رسم بورتريهات لأصدقائه، منهم السياسي السوري الرزاز الذي يحمل رسمه من القلق ما يشي بنهايته التي كانت في السجن، بالإضافة لبورتريهات لعبد الرحمن منيف، أدونيس، السيّاب ونذير نبعة.
الوجوه عند قصّاب باشي كاريكاتيرية في أغلبها لحدٍ مقبول، وتعيسة في الوقت نفسه، فنجد الوجوه عريضة، بشكل لافت، والعينين متباعدتين، الجاذبية تلعب دوراً مهماً في سحب رؤوس قصّاب باشي مع ملامحها للأسفل، حتى التجاعيد الملوّنة نراها متدلية، وكأن أحدهم يسحب الرؤوس للخلف من شعرها وإلا لما كان كلّ هذا الامتعاض واضحاً على التفاصيل؛ نستطيع القول إن قصّاب باشي صنع أيقونات معاصرة منهكة شاحبة تشبه الإنسان اليوم يقول عنها «إنها أيقونة الإنسان في مصيره»، أيقونات تحمل من العذاب والتفتت ما يلخّص آلام أجيال من البشرية تختبئ ضمن ملامح شخوص، سُئل مروان مرةً كيف يصنع اللوحة، فكان جوابه: «أضع قطعة من الخيال فوق قطعة القماش، وبعد ذلك، أبدأ بعملية التعذيب.. التعذيب هنا، أنني أستذكر كل ما هو كائن في رأسي حتى إذا ما كان لدي بعض الهفوات، أحاول محاورتها، لأن الفنان الحقيقي هو الأكثر تعذيباً». الأجساد عادةً ما تكون مسترخية وكأنّ خللاً أصاب الجهاز العصبي، تسترخي على الكرسي أو على الأرض وحتى في وقوفها، لا فرق بين إنسانٍ ودمية، بل هناك الكثير من النقاط المشتركة التي تحمل دلالات بتسيير الإنسان وعدم قدرته على التحكم الواضح بذاته، ومعان نفسية عميقة تظهر مع ضربات فرشاته الواضحة والقاسية، كذلك من خلال حركة تلك الفرشاة المنفعلة والقلقة التي تذكرنا بارتجافها في أعمال لوسيان فرويد. الوجوه ليست وحيدةً دوماً فقد تتجاور أحياناً عدة وجوه مختلفة الحالات مع بعضها في لوحة، وكأنها نزعةٌ قلقة تعبر عن حالة انفصام واضحة تحمل من القلق الكثير.
الألوان في معظم الأعمال عند كثيفة، طبقات تتالى فوق بعضها البعض وكأنها سنين متكدّسة على أجساد أبطال أعماله، تشبه حلقات العمر التي تملأ جذوع الأشجار وتحاكيها بالليونة أيضاً، عن ذلك قال: «لم تأت عن قصد جمالي وزخرفي… بل هي تحمل الوثيقة الذاتية للّوحة، حيث تتراءى في الطبقات المختلفة ظواهر لونية في طبقة سفلى، وهكذا وكأنها شيء، مع الوقت وحمل سيرة الزمن والنفس». تعتيق هذه الوجوه بالألوان منحها هالة من التقديس والرهبة التي يكملها أحجام الأعمال الكبيرة، حيث أنك تجد ذاتك داخل النفس الإنسانية بتشعباتها وتناقضاتها، ضمن صورة الضمير المندهش اليائس المطبوع على الوجوه. الألوان تُختار بعناية شديدة، بعد دراسة تستمر لشهور وأكثر حتى يصل للصورة التي في داخله وكأنّ العمل مرآة لروح قصّاب باشي، الألوان لديه غالباً ترابية كامدة، وإن كانت قويّة فهي بعيدة عن الفجاجة، بني، أصفر، ازرق ونادراً ما يستخدم لطخات من الأحمر في لوحات الدمى، حيث أن الفنان كان يعتبر اللون الأحمر فخاً تضعه على الباليت يضيء، تضعه على اللوحة غالبا ما يحطمها؛ الضوء مهم جداً لديه فهو قادرٌ على اللعب بالألوان وتغييرها كما يشاء. الخطوط المتماهية مع بعضها والمتعرجة بانسيابيّة تعطينا إحساساً وكأننا نراقبها وهي متمددة تحت سطح مائي لا تتركه الحصوات ليرتاح، الوجوه تغرق، ونحن هدف نظراتها الأخيرة، وجوهٌ تشبه أيّاً كان من هذا العالم، فقد تحرّر مروان قصّاب باشي من الانتماءات الضيقة وكأن انتماءه لذاته هو صاحب الصوت الأعلى، صوت الإنسان الصادق داخله. وجوهٌ كثيرة تغيب في ماء الأبدية عند مروان، واليوم يلحق بوجوهه ويضيع بين تجاعيدها، أبقى لنا نظرته الأخيرة، لتقول أنه حاول ووصل للمُلك الذي نشده، قصاب باشي الذي كان دائم الاستشهاد بهاذين البيتين لامرئ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه/ وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عيناك إنما/نحاول ملكا أو نموت فنُعذَرا

٭ كاتبة سورية

التشكيلي السوري مروان قصّاب باشي يغيب إلى الأبد بين تجاعيد الوجوه في أعماله

بسمة شيخو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية