مسابقات شعرية أم صناعة نجوم؟

في مقالة سابقة للأكاديمي المغربي سعيد يقطين، في «القدس العربي»، بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر 2016، التي جاءت تحت عنوان «الأنواع الروائية والجوائز»، أثار معضلة حقيقية أصبحت تتهدد الإبداع العربي اليوم، ألا وهي مسألة الجوائز الأدبية. والحق أن هذه المعضلة، ما تزال مدرجة ضمن المسكوت عنه، في ثقافتنا العربية؛ ربما لأن المؤسسات الراعية لهذه المسابقات، تمتلك من آليات الهيمنة الثقافية، ما يكفيها لكي تجعل من هذه القضية تابوها، أو ربما لأن الكُتّاب أنفسهم، لا يستطيعون، أو لا يرغبون في تحريك هذا الملف، بسبب طمعهم في الحصول على المكافآت المالية، من جهة، أو لأنهم يستفيدون، بطريقة ما، من الامتيازات والمنح المهداة من طرف هذه المؤسسات (الثقافية) الحاضنة والمانحة، في إطار ما أضحى يصطلح عليه اليوم بـ»الربيع الثقافي»، من جهة أخرى.
إن السؤال الذي شغل سعيد يقطين، هو نفسه يشغلني، مع فارق في الجنس الأدبي. فالأستاذ سعيد تحدث عن الجوائز في مجال الرواية، فيما أنا سأخصص هذا الحيز للحديث عن الجوائز في الشعر: طبيعة المسابقات. لمن تعطى الجوائز. نوع (القصيدة) التي تحصد أكبر عدد ممكن من الجوائز.. إلى غير ذلك من الأسئلة .
فليس من شك أن المسابقات الشعرية الكثيرة التي تنظمها بعض القنوات التلفزيونية العربية (مثلا)، أو بعض المجلات والصحف، أو بعض المؤسسات التي لا نعرف طبيعتها، ولا حتى مصادر أموالها، أضحت تثير وتحفز شهية الشعراء العرب، بشكل لافت، بغض النظر عن الإضافة التي يمكن أن تضيفها هذه المسابقات، لتجربة هذا الشاعر أو ذاك.
وفي الحق أن المسابقات الأدبية والفكرية، بشكل عام، خلقت تشوهات كبيرة في جسم مشهدنا الثقافي العربي. فمع احترامي ـ في المغرب مثلا ـ لبعض الأسماء الوازنة التي فازت بجوائز وطنية وعربية، وهي أهلٌ لأكثر من ذلك، وقد تعدُّ على رؤوس أصابع اليد أو اليدين على أبعد تقدير، فإن جل الكتاب والمبدعين، ومنهم الشعراء، أصبحوا يتهافتون على مثل هذه المسابقات، خصوصا الخليجية منها، بغاية الكسب المادي بالأساس، بدون أدنى اعتبار للحس الجمالي أو الفكري، أو حتى الانتباه إلى الخط التحريري للصحيفة أو المجلة المنظمة للمسابقة، أو نوايا المؤسسات الكبرى الحاضنة والداعمة لمثل هذه المسابقات، الشيء الذي تحولوا معه، إلى مجرد كتاب تحت الطلب، يكتبون من داخل أجندات أو وعي إيديولوجي – ثقافي موجه؛ لأنه، كما لا يخفى على أحد، لكل مسابقة، رؤية وأهداف مسطرة تُقيّمُ من خلالها الأعمال المرشحة؛ ومن ثم يتوجب عليك ككاتب أن تكتب من داخل هذا المطلب، إن أنت أردت الفوز بالجائزة، حتى لو كنت لا تؤمن به.
والملاحظ أن العديد من المسابقات الشعرية اليوم، في المغرب، أصبحت تثير شهية الشعراء، على الرغم من قيمة المكافآت الهزيلة المخصصة للفائزين، بما فيهم بعض الأسماء التي كانت، إلى حدود الأمس القريب، تؤمن بأنه ينبغي على الكتابة الشعرية الواعدة والطامحة، أن تكون، لا مجرد انفعالات وحدوس عفوية، وإنما عليها أن تحمل مشروعا، وأن تقوم على وعي بويطيقي مغاير باستمرار؛ وإن كانت هذه الأسماء، على علم بأن هذه الجوائز، تمنح لهذا أو ذاك، لا بالنظر إلى قيمة عمله، وإنما لاعتبارات أخرى، بعيدة عن أن تكون فنية.
لقد استغرق الأمر، في السابق، من أحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني، وعبد الكريم الطبال، وقتا طويلا، لكي يكرّسوا أسماءهم في المشهد الشعري، بالاستمرار لا بالانقطاع، كمّا وكيفا، تجريبا وتأصيلا. أما الآن، وبعد أن تيسرت الأمور، وأصبحت مسألة صناعة النجم أسهل من كلمة «ألو»، فإنه أصبح بالإمكان جدا، لأي كان، أن يغدو نجما؛ فقط عليه أن يفوز، بأي طريقة، بجائزة شعرية ما، كما فعل العديد من (الشعراء) الذين تعج بهم بعض المعاجم والأنطولوجيات الشعرية، وإن كان نجمهم، للأسف، قد أفل، قبل أن يرتد إليهم طرفهم.
هذا مبرر كاف لأقول إن المسابقات الشعرية على امتداد الخريطة العربية، قد تُفسد الشعر، مادامت لا تؤمن بالإبداع والاختلاف الشعريين، والاستمرارية بالإضافة، لا بالاسم، بقدر ما أضحت تراهن على صناعة النجوم (الشعراء)، على غرار نجوم «ستار أكاديمي» الذين مسخوا الأغنية العربية ( مع بعض الاستثناءات)، وأفسدوا الذوق الفني لدى الجمهور.
ملاحظة أخرى أسجلها، وهي أن العديد من المتعصبين للقصيدة، في ماهيتها الشفاهية، ممن تنصبهم الجهات المنظمة أعضاء، ضمن لجان تقييم الأعمال المقدمة للمسابقة، يختزلون الشعر في شكل واحد ونهائي، ويعتبرون كل خروج عن معيارية القصيدة إياها، مروقا وَرِدّة، ينبغي محاربتها.
فترى الرجل منهم، ينصّب نفسه شرطيا، يسمح لهذا بالمرور إلى وطن القصيدة، ويمنع ذاك، لمجرد أنه اختلف معه جماليا، فيعمل كل ما في وسعه، لإقصائه مبكرا من الجائزة، أي منذ الانتقاء الأولي. وهؤلاء هم من سماهم ياكوبسن، ذات توصيف، ببوليس الأدب؛ وهم متواجدون في كل الأزمنة.
للأسف مرة أخرى أقول إن المؤسسات الثقافية والإعلامية الراعية للثقافة، في بلادنا العربية، مع بعض الاستثناءات، هنا وهناك، لا تنتصر سوى لنمط بعينه من الشعر دون الأنماط الأخرى، إرضاء لأجندة ثقافية/فنية محافظة، الشيء الذي يجعل الممارسة الشعرية، عندنا، ترتهن بمسبقات بالية، ومواضعات واشتراطات لم تعد تستجيب لانتظارت جمهور القراء. فكانت النتيجة أن خاصم وهجر( هذا الجمهور) الشعر برمته.
وحتى لا أكون عدميا أقرُّ، في خاتمة هذا المقال، بأن هناك بعض المسابقات، وهي قليلة، بالنظر إلى هيمنة الدعاية المُفسدة للشعر، تروم الأفق الحداثي، والوعي النقدي الطليعي، وتسعى إلى دفع المثقفين العرب إلى المشاركة في إنجاز الحدث الثقافي الكوني كفاعلين لا كمنفعلين.
وعلى غرار ما انتهى إليه سعيد يقطين، باقتراحه حلا، قد يحل مشكلة معايير التقييم في مثل هذه المسابقات، بحيث اقترح أن تخصص اللجنة المنظمة جائزة كل سنة لنوع روائي، فأنا أيضا أبادر باقتراح الأمر نفسه في مجال الشعر، خصوصا إذا ما علمنا أن الشعر لا يمكن حصره البتة في مجرد «القصيدة».
فكما هو معلوم، فإن الساحة الشعرية، في الوطن العربي، تتوزع بين شعر التفعيلة، وقصيدة النثر، والشعر العمودي، والهايكو، إضافة إلى شعرالزجل. وأظن أن هذا التنوع، هو ظاهرة صحية وإيجابية إذا ما نظرنا إلى الشعر باعتباره كثرة، لا بوصفه مقترحا واحدا، لذلك فإن فتح الباب أمام كل هذه الصنوف الشعرية، بشكل عادل ومنصف، سيحفز لا محالة الشعراء على الاجتهاد. لكن أن تجمع بين ما لا يجمع في سلة واحدة، كأن تنظم مسابقة للشعر، هكذا، ونحن ضمنيا نعرف أن ذائقتنا، في عمومياتها تنحاز للتطريب والسماع المجسدين في القصيدة العمودية بالدرجة الأولى، ثم في القصيدة التفعيلية، بدرجة أقل، فإن هذا إعلانٌ مسبق عن الفائز بالجائزة، وتكريسٌ فاضحٌ لنمط شعري دون الأنماط الأخرى.

٭ شاعر وكاتب مغربي

مسابقات شعرية أم صناعة نجوم؟

محمد الديهاجي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    أخي محمد الديهاجي : من الآخر…نمط الجوائز( الكريمة ) ليست ظاهرة حديثة…كان الملوك والخلفاء والسلاطين ( العرب ) يكرمون يومذاك
    الشعراء المداحين…فقط حصل ( تقنين ) أي تغييربالأسلوب المباشر( لسلب ) المديح مقابل ( الطبيخ ) بالأسلوب غيرالمباشر.وهذه من طبائع
    البشر.لوكنت أميراً ومدحتني سأجزل لك العطاء ذهباً وفضّة ؛ ولوشتمتني لضربك بالعصا فلقة..فلا تقلق بل قل : أعوذ بربّ الفلق.إنما الشيء الذي لم يقف عنده واقف لماذا لا نخصص مثل هذه الجوائزالكريمة للأعمال العلمية التقنية ؟ وهي التي تبني الحياة والحضارة الحقيقية ؟ أما الشعروالمقالة الكلامية وغيرها فهيمن مقول القول ؛ لا أكثرولا أقل.فلا تغضب هذه هي الحقيقة…لذلك إذا أردت معرفة تقدّم الأمة فأنظرإلى
    عدد المغنيين القوالين…إذا زاد على عدد العلماء العاملين ؛ فهي أمة بعيدة عن الحضارة…وإذا كان العكس ؛ فازت وربّ الكعبة بالكأس.

إشترك في قائمتنا البريدية