ما تزال قاطرات الربيع العربي تتدحرج راغبة بأن تهدأ وتستقر، معلنة أن عبور الأوطان قد يكون سريعاً ومفاجئاً، مثلما أن معاودة العبور قد تتعدد وتتكرر، وقد يرى البعض أن الربيع السياسي العربي يقع بين مطرقة الشتاء الإسلامي، عندما تشاء الأقدار، وسندان الصيف العسكري عندما تستوجب ذلك الأقدار نفسها، لتبقى مظاهر الخريف الديمقراطي تتأرجح يوماً بعد يوم، وتصبح الممارسة السياسية فيضاً من المحاصصة والتشدد والارتباك، فضلاً عن التخندق وراء الأفكار والمبادئ. في مصر التي طالما احتاجت زعيماً منقذاً وساحراً، يستطيع ترسيخ مبادئ الوفاق والتصالح بين القوى والمذاهب السياسية المختلفة، وتدعيم ركائز الأمن القومي استنادا لعبر التاريخ ومعايير الجغرافيا المصرية، ظهر رئيس لا يتمتع بقدر وافر من الكفاءة، انبثق من رحم جماعة طالما عاشت الظلام فلم تعد تهضم النور، واعتادت الملاحقة والإقصاء لتجد نفسها تمسك وتتحكم بمقاليد الأمور بين ليلة وضحاها، ثم ليُصدِر إعلاناً دستورياً مثيراً للجدل، أصبح عنواناً للتراشق والتصارع السياسي، مسطّراً عاماً كاملا مليئاً بالتصادم مع أهل القضاء ورموز القوى الناعمة من الفنانين والمبدعين، ومنابر ومحطات الإعلام والرأي الحر، بالإضافة لعدد كبير من الأحزاب السياسية القومية والليبرالية وحتى السلفية منها، كل ذلك عدا الافتقار لرؤية واضحة ومجدية لحل أو تخفيف قسوة التحديات الاقتصادية والمائية والمعيشية، بعيداً عن الخطابة والارتجال، وبعد ذلك كله يجد معظم الشعب المصري نفسه مرغماً على أن يكمل ويجدّد ثورته، بثورة سلمية الرؤى والوسائل، حشدت وجمعت مثلما لم يجمع ويحشد شعب في الدنيا، فيستشعر جيش مصر نبض وغليان شعبه، وتصميمه على تغيير الواقع البائس بكل حزم، فيكون الجيش حامياً وراعياً ومحافظاً على وطنه قبل كل شيء. أما حزب الحرية والعدالة الذي طالما أدعى قناعته بشرعية ميدان التحرير، وضرورة الاستجابة للمطالب الوطنية والشرعية والشعبية، فاعتبر ما جرى انقلاباً على صندوق نال شرعيته قبل عام، عام رآه المصريون مئة عام ويزيد، فتسلّح الحزب بالمظاهرات العنيفة والمسلحة أحياناً، وكمٍّ هائل من الخطب الدينية المُسيسة والفتاوى المتشددة، وأوهام وخيالات عن دعم القوى السماوية لهم ضد غيرهم، واستهداف المراكز الأمنية والعسكرية وإعلان الحرب عليها بلا هوادة، وأخيراً تصنيع العبوات وإلقاء الصبية من فوق سطوح البنايات، عقاباً لهم ما فوقه عقاب، لتترافق صور رئيسهم المعزول مع حاملي العصي والسيوف والمسدسات البغيضة، كأن محاولة استدراج الجيش إلى الاقتتال الداخلي أصبحت لهم هدفاً وغاية ثمينة. قد لا يكون من السهل إنهاء حالة الاحتقان والتوتر التي تسود الشارع المصري، ما دامت بواعث التدهور تنبعث من طيفٍ متشددٍ ينحدر من نسيج الشعب المصري، وقد تتعقد الخطوات السياسية المراد اتخاذها لتتخذ صبغة الشد والجذب والفعل ورد الفعل، ومهما حاول النظام المصري الجديد تبديد مشاعر الكراهية والاندفاع لدى قيادات وأنصار حزب الحرية والعدالة فلن يجعلهم ذلك يديرون بوصلتهم السياسية والعقائدية تجاه السلم والمهادنة، فهذا حالهم منذ عقود طويلة اختاروا فيها دور الضحية على مسرح مصر، لتصبح مصر ضحية على خشبة احتكارهم للدين، وادعائهم بأنهم وحدهم حماته ورافعو لوائه، وأما جيش مصر فكان الله في عونه ما دام هو في عون شعب مصر الطيب العظيم.