يعتبر المترجم والناقد المغربي شكير نصر الدين، أحد الناقلين الأساسيين لباختين للعربية، كما إن ترجماته للويس كارلو، ولغويوم ميسور، وفانسو جوه، لاقت اهتماما مهما، وإضافة إلى أعماله في الترجمة، هو ناقد أيضاً وسم مساره بالاختلاف، والتمكن من المنهجية الأكاديمية. هنا حوار معه حول تجربته في الترجمة والنقد:
■ ما النص الذي ورّطك في عالم الكتابة؟
□ النص المكتوب الذي خلَّف أثرا كبيرا في وجدان الطفل الذي كنته هو رواية «ابن الفقير» للروائي الجزائري المغتال، مولود فرعون، الذي شدّني كثيرا وبهرتني حكايته، لعلها أيضا طبعة جميلة وجدتها في مكتبة الوالد، من «ملحمة جلجامش»؛ وبصفة عامة كان للمحكي سحره الآسر الذي جعلني أسقط في حبال القَصَص، حتى لا أقول ورطة، فهذه الأخيرة يبحث المرء عن الخروج منها، أما الخيال الممتع، فهو أشبه عندي بتلك «المتاهة» التي ندخلها عن طيب خاطر، والتي لا نريد الخروج منها.
■ هناك اختلاف في تحديد وظيفة الناقد ودوره والمجالات التي يجب تناولها، ما تصورك لهذا الجدل؟
□ الناقد يكتب داخل سياق أدبي وفكري موجود وسابق عليه. إذ ليس هناك من يكتب أو ينقد وكأنه أول من يفعل ذلك، هناك فضاء يضمه، هو أكبر منه، إنها الحوارية باختصار التي أسس عليها باختين مشروعه النقدي الكبير. وهكذا، فالناقد تحيط به وفي أفقه المنظور كتابات كثيرة ومتنوعة، ولا يستطيع الإلمام بها جميعاً، قراءةً، فكيف بالحري نقداً، لكنه يستطيع أن يتناول ما يراه معبراً عن ذائقة، أو فكر جيل، أو تقنية في الكتابة مهيمنة، أو قد تكون متفردة. هذا من حيث التلقي، لكن بخصوص المقاربة، وزاوية النظر، فهي ليست واحدة ووحيدة. إذ ليس هناك ناقد في المجرَّد يتعامل مع النصوص في لحظتها الخالصة، فالنص مهما تفرد هو امتداد لنصوص سابقة عليه، حتى لو دخل معها في صراع المغايرة. الناقد هو من يرصد التحولات والامتدادات، الذي لا يبقى سجين الزمنية الصغرى بل يتخطاها، بكثير من المجازفة إلى الزمنية الكبرى؛ هذه النظرة للنصوص، العربية والمغربية خاصة، تستطيع أن ترصد لنا درجة الاتباع والإبداع فيها، ومن هنا تظهر نسبية الكمّ مهما كثر، إذ قد تخرج إلى عالم النشر مئات الروايات والنصوص الشعرية في العام الواحد، لكن المعيار المومأ إليه سابقا يسمح باختزال هذا الكم الهائل إلى نصوص تعد على رؤوس الأصابع، إذ حينما يصطفي ناقد معيَّن نصا من ضمن عشرات فذلك بالنظر إلى التكرارية والتشابه فيها جميعها.
■ ترجمتَ ثلاثة كتب لميخائيل باختين «جمالية الإبداع اللفظي»، «أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية» و«الفرويدية»، إضافة إلى كتب نقدية أخرى، هل تعتبر فعل الترجمة إبداعا موازيا؟
□ مثلما أن الكتابة لا تستقر في تعريف واحد فالترجمة هي بالمثل. والاختلاف ناتج بالضرورة عن زاوية النظر. هل ننظر إليها بوصفها منهجا للتعليم والتعلم؟ أم نعتبرها في مجالها التداولي الوظيفي الصرف؟ لكن المؤكد أنه لابد من حصر المجال، وتضييق النطاق في مجال التداول الأدبي والنقدي. بهذا المعنى الترجمة نشاط ثقافي فاعل، وللتدقيق تفاعلي، إذ حينما نترجم من لغة إلى لغة أخرى، يتخذ ما نترجمه مكانه في مشهد ثقافي جديد، يصير بدوره فاعلا في نصوص أخرى منجزة في حقول تداولية مغايرة.
■ كيف ترى كناقد الساحة الثقافية المغربية اليوم؟
□ لعل المثير للانتباه اليوم بخصوص المشهد الثقافي عموما، والنقدي منه على الأخص هو تعدد المناهج والتوجه نحو التخصص أكثر في الآن نفسه، وإن كانت السمة الغالبة هي الاشتغال وفق قيود المنهج دون إفساح المجال للنص حتى يقول شيئا آخر غير ما يريده ذلك المنهج؛ أي أن الشكلنة والصورنة تؤدي في نهاية الأمر إلى تشيئ النص، وجعله ذريعة فحسب لإبراز مدى ورود المنهج وإوالياته؛ وهذا مظهر رصدناه منذ سنوات، سواء في منجزات روائية أو في دراسات نقدية، الأولى فهمت تعدد الأصوات بحرْفِيته، فكان أن صار كل كاتب رواية يتعمد توزيع السرد بين شخصياته، والحال أن التعدد البوليفوني ليس ظاهرة سردية، بل هو ظاهرة أفكارية، فالتعدد البوليفوني إيديولوجي لزوما، كما أن الكثير من الدراسات النقدية باتت أقرب إلى شبكات قراءة جاهزة للاستعمال حسب الطلب، يكفي تغيير عنوان النص قيد الدرس واسم مؤلفه للحصول على الخلاصات ذاتها. وقل الشيء نفسه عن الكتابة بضمير المتكلم، والسرد السيرذاتي الزائف أو المتخيل الذاتي وغيرها من الأسماء، لدرجة أن الاهتمام بالأشكال والمفاهيم والمقولات الفنية والجمالية صار غاية في ذاته، وهي في الأغلب مقولات ومفاهيم رأت النور تحت سموات غير سمائنا هذه.
■ في هذا السياق كيف أثرت «الرواية الجديدة» على أنماط الكتابة، تحديداً في المغرب؟
□ الكل قلَّد ما سمِّي «الرواية الجديدة»، والكثير جرَّب الكتابة على نهج ما جاء في تنظيرات جيرار جنيت، بتغيير البؤر السردية، وطائفة ثالثة ذهبت بالنص «المنكتب» إلى نهايات لم يتخيلها رولان بارت نفسه، ورابعة جعلت من النص المتعذر قراءته هدفا لها حتى صارت النصوص أشبه بالخان الإسباني؛ لكن شيئا فشيئا هدأت هذه الفورة، في مجال السرد على الأخص، وآمن كتاب الرواية أخيرا، بأن الرواية الجيدة هي التي تستند إلى حكاية، ولا إفراط في صنعتها السردية، ونحن الآن نرى أن الروايات المغربية التي حققت نجاحا، على الصعيد العربي، هي تلك التي لم تركن إلى فن الصنعة فقط، بل التي صهرت المحتوى والشكل ومادة البناء في معمار تأليفي فني وجمالي متكامل؛ ما نحن في حاجة ماسة إليه اليوم، هو هذه المقاربة التكاملية، إبداعا ونقدا.
■ هل هناك سمات خاصة للنقد المغربي؟
□ لدينا تجارب نقدية متميزة، في النقد الأدبي، والبحث اللساني و في الأنثروبولوجيا، وباقي العلوم الاجتماعية، ما ينبغي الإقدام عليه هو وصل هذه المباحث، ليس بطريقة توفيقية مرغِمة، وإنما بانتقاء ما قد يعين في تشكيل نقد مغربي مفرد، يعكس بحق «النبوغ المغربي»، تصور معي ما قد نجنيه نقديا من وصل أعمال، المختار السوسي، جرمان عياش، محمد جسوس، عبد الله العروي، عبد الله حمودي، عبدالفتاح كيليطو، عبد القادر الفاسي الفهري وسعيد يقطين، على سبيل المثال لا الحصر! لا ننسى أننا بلد متعدد الثقافات، وضارب بجذوره في القدم، وهذا إرث يجب عدم القفز عليه، بالاكتفاء باستهلاك ما يرد علينا، سواء كان من الشرق أو من الغرب.