القدس: هستيريا الأركيولوجيا وعماء الاستيهام التوراتي

حجم الخط
8

يحدث أحياناً ألا تُصنع مهازل إسرائيل، ومباذلها وفضائحها، على أيدي ساسة إسرائيليين من اليهود؛ بل يشارك في صنعها، وعلى نحو لا يقلّ مهزلة وابتذالاً وفضائحية، ساسة إسرائيليون… من أصول فلسطينية ـ عربية! تلك كانت الحال، قبل أيام، مع أيوب قرا، نائب الوزير الإسرائيلي للتعاون الإقليمي؛ الذي أنذر الإيطاليين بأنّ الزلزال الأخير الذي عصف ببعض المناطق في البلد كان سببه موقف إيطاليا في اليونسكو، بصدد القرار الخاص بالقدس القديمة والمسجد الأقصى والحرم الشريف. وكانت إيطاليا قد امتنعت عن التصويت على القرار، فكيف ـ في عرف قرا، ابن «دالية الكرمل»! ـ لو أنّ روما صوّتت مع القرار! وأي أعاصير، غير الزلازل، كانت ستحيق بالبلد فلا تُبقي فيه ولا تذر!
ما يضيف المأساة إلى المهزلة أنّ ساسة إسرائيليين يهوداً، ابتداءً من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، وليس انتهاء بوزارة قرا ذاتها، هم الذين وبّخوا هذا العبقري على تصريحات خرقاء؛ وكانوا قد اعتادوا التصفيق له، كما يُصفّق للحواة غالباً، كلما صدر عنه موقف مؤيد للاستيطان في الضفة الغربية، أو مطالب بإعادة الفلسطينيين إلى التابعية الأردنية، أو كاره لشخص ياسر عرفات… صحيح أنّ قرا اعتذر لاحقاً، أو أُجبر على هذا بعد صدور بيان اعتذار رسمي من الخارجية الإسرائيلية وردود فعل عنيفة من الحكومة الإيطالية؛ إلا أنّ «حكمة» الموقف الإسرائيلي من قرار اليونسكو تجلّت، على أكمل وجه يمزج المهزلة بالمأساة، في هذا التصريح الأحمق.
وقبل هذه الواقعة كان طابور دولي، من غير الإسرائيليين هذه المرّة، قد انخرط في تقريع اليونسكو على إصدار هذا القرار؛ ابتداءً من المديرة العامة للمنظمة، نفسها، البلغارية إرينا بوكوفا، التي كتبت إلى تسيبي ليفني، رئيسة «الاتحاد الصهيوني»، لتؤكد أنّ «هذه القرارات تتخذها الدول الأعضاء وليس المدير العام في ذاتها»؛ دون أن يفوتها التشديد، بالطبع، على أنّ منظمتها تعمل «لمحاربة اللاتسامح والأشكال المعاصرة من العداء للسامية، بما فيها تلك التي تسعى إلى نزع الشرعية عن دولة إسرائيل».
الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، استكمالاً لسلسلة بدائعه في توديع المنصب (تكريم ممثل النظام السوري في المنظمة، مثلاً)؛ ذكّر العباد بما لا ينكره أحد: أنّ الحرم الشريف/ المسجد الأقصى، وجبل الهيكل، وكنيسة القيامة، هي أماكن مقدسة لدى الديانات الثلاث، الإسلام واليهودية والمسيحية؛ وبالتالي فإنّ أي تبديل في مكانتها «لا يخدم مصالح السلام، ولن يغذّي إلا العنف والتشدد».
أمّا ثالثة الأثافي فقد أتت من حيث لا يحتسب المنطق البسيط: من البرلمان التشيكي، أنعمْ به وأكرم، حيث صوّت 119 نائباً، من أصل 149، على بيان شديد اللهجة؛ يرفض قرار اليونسكو، لأنه لا ينكر حقّ اليهود وحدهم، بل حقّ المسيحيين أيضاً، ولهذا فإنه إجراء يجرّد المنظمة من المصداقية!
طريف، في المقابل، أنّ القرار لا ينتقص حقاً يهودياً أو مسيحياً، بقدر ما يسعى إلى ردّ حقّ للمسلمين دأبت إسرائيل على الانتقاص منه طيلة عقود تأسيس كيان الدولة، وعلى وتيرة مختلف مدارس التبشير اليهودية المتشددة، فضلاً عن العقيدة الصهيونية في ظاهر مفاهيمها الدينية و«العلمانية» وباطنها، على حدّ سواء. ما يثير حنق أصدقاء إسرائيل، فضلاً عن إسرائيل ذاتها، هي تلك الفقرات في حيثيات القرار التي تبدي القلق أو الأسف (ولكن ليس الإدانة، البتة، للإيضاح!) إزاء ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية في القيام بحفريات غير قانونية في المدينة القديمة وعلى جانبَي الجدار، والأضرار التي لحقت بالمسجد القبلي جراء تلك الحفريات، وحظر أو تعطيل أعمل صيانة باب الرحمة، وأخطار بناء خطّ ترامواي على مبعدة أمتار من أسوار القدس، وما إلى ذلك…
والمرء، هنا، يتذكّر العاصفة التي أثارها أرييل شارون في زيارته الشهيرة إلى الأقصى؛ وكيف اقترنت خطوة الانتهاك تلك، التي تمّت عن سابق قصد وتصميم، بتصريحات شهيرة حول انعدام الصلة بين الإسلام والقدس (أو أورشليم، في التسمية البديلة!)، تاريخاً ونصوصاً مقدسة معاً. ففي حوار شهير مع جيفري غولدبيرغ، يعود إلى مطلع 2001، نشرته مجلة «نيويوركر» الأمريكية؛ استذكر شارون أنّ القرآن لا يأتي على ذكر القدس أبداً، في حين أنها تُذكر في التوراة 676 مرّة! وأيضاً: النبيّ محمد لم يزر القدس أبداً، وحين وقعت المدينة تحت «الاحتلال» الإسلامي، فإنّ ذلك حدث بعد وفاة النبيّ بسبع سنوات؛ وأخيراً: اليهود، في العالم قاطبة، يصلّون ووجوههم إلى جبل الهيكل، أمّا المسلمون فإنّ مكة هي قبلتهم ويديرون ظهورهم للقدس!
يومئذ، كما في هذه الأيام كذلك، كان تاريخ القدس يحتشد بمعادلات ضاغطة لا تتسع لها الجغرافيا، المعاصرة مثل تلك القديمة في الواقع؛ خاصة وأنّ التاريخ يقول إنّ مملكة داود لم تكن تتجاوز العشرين أكرة (مقابل 27.000 أكرة تحتلها إسرائيل اليوم!)؛ وأنّ الملك داود جاء إلى فراغ إسرائيلي، مقابل امتلاء كنعاني يمتدّ ألف سنة على الأقلّ، قبل أن يقرر تحويل القدس إلى بديل عن الخليل وبيت إيل. وهكذا فإنّ القدس ترتدّ دائماً إلى خصوصيتها الفريدة، التي عجزت جميع الشعوب والديانات والعقائد والقوى الكونية الجبارة عن تبديلها: أنها المدينة المسكونة بالتاريخ، حيث لا ينقلب حجر إلا ويتكشف عن صفحة غابرة تضيء الماضي ثم تمتدّ إلى الحاضر، وتستطيل أخيراً لكي تخيّم على المستقبل أيضاً.
إنها «البقرة المقدسة» عند القومية الإسرائيلية والقومية الفلسطينية، كما قال الروائي الإسرئيلي عاموس عيلون؛ ولكنها تصبح أكثر من بقرة لاهوتية مقدّسة حين يصطدم تهويدها بعبوة بشرية ناسفة من النوع الذي انفجر مراراً في قلب فلسطين، الممسوخة إلى جغرافيا توراتية؛ أو ساعة تتدخل الأبدية في قرار الكنيست، الذي يعتبر القدس عاصمة أبدية موحدة لشعب إسرائيل. لهذا فإنّ تسعة أعشار الساسة اليهود (ولندعْ أمثال أيوب قرا جانباً) تشابهوا، ويتشابهون، في الموقف من يهودية القدس: الديني المتشدد، مع العلماني المعتدل؛ واليميني المستنير، مع اليساري الليبرالي؛ وعمدة القدس الأسبق إيهود أولمرت (الليكودي الصقري) مع سلفه تيدي كوليك (الليبرالي الحمائمي)، أو العمدة السابق أوري ليوبينسكي (الذي يدعو إلى هدم المسجد الأقصى!)، مع العمدة الحالي نير بركات (الذي نصح فلسطينيي 1948 بمغادرة إسرائيل النزوح إلى رام الله)… أكثر من ذلك، كان كوليك هو المسؤول عن عمليات التهويد الأولى، مباشرة بعد احتلال القوات الإسرائيلية للشطر الشرقي من المدينة؛ ثمّ انتقل إلى تنظيف الفضاء الجغرافي المحيط بالحائط الغربي، فهدم حيّاً عربياً بأكمله بين ليلة وضحاها…
وحين هندس مناحيم بيغين قرار القدس عاصمة لإسرائيل، توجّب أن تُستكمل الهندسة اللاحقة، في الأنفاق الحاسمونية والمجاري الهيرودية، ولكن بعيداً عن حقائق السجلّ التاريخي، وفي مطحنة هوجاء تشوّه الوقائع وتمسخ الحقائق وتحرّف المعطيات؛ كما توجّب على باطن الأرض أن يقذف الحمم بين حين وآخر… الحمم التاريخية ذاتها، الأكثر التهاباً وسخونة. وفي غمرة هذا الامتزاج العجيب بين لهيب التاريخ وجليد النفاق الدولي (على غرار بان كي مون وإرينا بوكوفا والبرلمان التشيكي، وإدارة أوباما، ورئيس الوزراء الإيطالي، وسواهم كثر…)؛ يبقى واقع فعلي على الأرض، لا يقلّ صلابة عن صخور أسوار المدينة العتيقة: أنها مدينة تحت واحد من أسوأ الاحتلالات في التاريخ، وأنها ذبيحة يومية أمام هستيريا الأركيولوجيا وعماء الاستيهام التوراتي!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس: هستيريا الأركيولوجيا وعماء الاستيهام التوراتي

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابراهيمي علي الجزائر:

    جاء في المقال ان القدس ذكرت في التوراة 676 مرة ، وانا اقول وقد قرأت التوراة فانها لم تذكر ـــ بضم التاءوفتح الكاف ــــ ان قدس المذكورة ليست قدس فلسطين ، انها قَدَس وهذه مدينة في محافظة تعز في اليمن ـ وافيد القارئ الكريم ان جميع الاسماء الواردة في التوراة لا يوجد بينها ولو اسم واحد في فلسطين ، انها موجودة خارج فلسطين ، وما الاسماء التوراتية التي نراها اليوم في فلسطين ما هي الا مفروضة على جغرافية فلسطين بجهود الصهاينة والمتصهينين والمتعصبين من المسيحيين ـ خذ مثلا مدينة حبرون التي يعتبرونها مدينة الخليل ـ انها مدينة في بلدية وقضاء رضوم في محافظة شبوة الى يومنا هذا تحمل نفس الاسم حبرون ، لذا نرجو ان يتوخى الكتاب والمؤرخون حين يتعرضون لمسائل توراتية ان يتحروا الدقة .

  2. يقول د 0 عطوة 0 ايلياء:

    حملة التجهيل والتعمية جلست يوما اريد مساعدة ابنى فى دراسته بالصف العاشر فى مادة الجغرافيا واذا بها ليست جغرافيا بل علم طبقات الارض وفى نهاية الدرس وضعت اسئلة على الموضوع وقرأت السؤال 15 مرة لافهمه كى اجيب عليه دون جدوى فاكتشفت ان المقصود التجهيل وليس التعليم وذلك فى القدس سامحكم الله فى الجزيرة 0 اركيولوجيا0 اليس لها مقابل بالعربية حتى نفهم ما هو المقصود ام المقصود ان لا نفهم وحذلقة فى المصطلح لتبان ثقافتنا؟ فماذا يدعى اعلان هيلرى كلنتون فى بداية حملتها الانتخابية انها ستنقل سفارتها اى سفارة امريكا من تل ابيب الى القدس لترضي الولع التوراتي الصهيونى ومخالفة للقانون الدولي ولوح بذلك بوش الابن ولم يجرؤ على تنفيذه بعد ان وقع بحربه الصليبية فأنا الدكتور عطوة من القدس مسموح لى ايضا ان استلهم من التوراة ما هو لصالحى فتقول العهد القديم ان ابراهيم عليه السلام عندما عبر الى هذه البلاد وجد به شعوب وممالك ودول لاناس يدعون الفلسطينيين تعايشوا بسلام مع الكنعانيين العرب ونتج عنهم اليبوسيين والحثيين والعماليق وجاء ابراهيم قبل جميع الاديان والرسالات ومعروف لدى العلماء والتاريخ ان الدين عبادة وليس قومية كما يدعى الصهاينة وتجربتهم اقرب وافضل دليل على فشلهم باثبات ان الدين قومية حيث تمر بحى فى تل ابيب تحسبك فى صنعاء واخر بغداد واخر الدار البيضاء واخر موسكو واخر بون او باريس وكل يختلف بمأكله ومشربه وموسيقاه ولغته البيتية وزواجه وعاداته ما يؤكد انهم شعوب مختلفة بكل شئ ولا يجتمعوا ويكونوا شعبا واحدا ول وقف العالم على رأسه الف عام فابن اليمن مثلا لا يقبل الجفلتع فش اى السمك المطبخ والمبرد اكل الغربيين ويقذفه بعيدا وكذلك الغربى لا يقبل الاكل اليمنى الحارفان قال الله بهم بنى اسرائيل المفضلين والمختارين فهو بنيامين اخا يوسف لامه واباه كان سبطا عابدا صالحا وليس كبنيامين نتياهو القاتل المجرم المراوغ عكس ما يؤمن الصهاينة ان الدين وراثة ودم وجنس وقال تعلى 0 انى جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدى الظالمين0 ايا ماكان فان الحق يعلو ولا يعلى عليه وقال الشاعر 0 السيف اصدق انباءا من الكتب فما اخذ بالقوة لا يستعاد الا بها فطق الحنك لا يفيد مكان السيف ولا يسمع وقت ازيز الرصاص وقعقعة المدافع والسلام على من اتبع الهدى وقتها لا تفيدهم منشان مخمد خبيبي

  3. يقول د 0 عطوة 0 ايلياء:

    يا اخى صبحى اعلمك ان ايوب قرا هو من العرب الدروز وهو قريب من الهضبة السورية ولكن الصهاينة استطاعوا ان يعملوا من ابو الثورة عميل يعمل لمشروعهم وينسى مشروعه وحتى مسقط رأسه والمقصود ابن صفد عروس شمال فلسطين والمطلة على طبريا من الغرب كما تطل دالية الكرمل من الشرق يا اخى نلوم على بلفور وربما اشتروه بالمال كبوتن ولماذا لا نلوم على بلفورنا 0 لا مانع لدى بان يكون لابناء عمومتنا المساكين اليهود وطن قومى فى فلسطين0 يا اخى جرحى قطاع غزة لم يستقبلهم معبر رفح بل مطار بن جوريون استقبلهم من قال الله تعلى فيهم 0 قلوبهم كالحجارة او اشد قسوة 0 المعنى ان هناك منا من هم قلوبهم اشد قسوة من الصوان وعلمليات الاعدام بدم ابرد من الثلج تمنع سيارت الاسعاف لطفلنا الجريح حتى يستشهد والعالم ينظر والاخوة ملهيين بصراعاتهم وكل ذلك والحمد لله 0 نحن من قال فينا الحبيب المصطفى صلعم0 على الحق قائمين لعدونا قاهرين لا يضرنا من خالفنا وخذلنا نحن اهل الرباط 0 ليقضى الله امرا كان مفعولا0 وواثقين من حقنا وواثقين من نصر الله والسلام على من اتبع الهدى وخشي الرحمن وحده ولم يخشى الردى والله اكبر ولله الحمد

  4. يقول محمد علي فلسطين:

    احسنت أخي إبراهيم و كثر الله من أمثالك وعلى المؤرخين عند دراسة تاريخ منطقتنا التجرد و التخلص من كل أفكار مسبقة و خاصة تلك القوالب الإسرائيلية

  5. يقول الدكتورجمال البدري:

    أظنّ أنّ ما ذكره السّيد إبراهيمي علي من الجزائزالحبيبة ؛ يشيرإلى ما ذكره المرحوم كمال صليبيا في كتابه : التوراة جاءت من جزيرة العرب ؟
    أم لديه شيء آخرجديد ؟ ياليتّ يبادرالأخ الجزائري بالتوضيح وله جزيل الشكروالمديح.أما أنت ياسيدي الحديدي فعلم على رأسه نار.أقرأ مقالاتك
    بشغف المريد ؛ بل قرأت حتى مواجهاتك ( الشعبوية ) العديدة مع بعض الكتّاب والإعلاميين العرب في ديارالغرب ؛ وسعدت بها ياأخ العرب !!

  6. يقول منى-الجزائر:

    أستاذنا الكبير صبحي حديدي ؛وهل كان ماكان،إلا جريرة،خيانة “بعض “داخل الداخل،وداخل الخارج؛فكيف لنا ان نلوم”الكافر” من التشيك “العريق “!!؟الى امريكا “ماقبل التأريخ ومهبط الوحي والكتب السماوية”؟!!!
    “والله الواحد قلبو تنفخ من حالنا جميعا ؛من المحيط للخليج”
    اينما التفت في هذا العالم “العربي “عرقا اولسانا؛إلاّ ونابك من الهول والفجيعة الكثيييير.
    لنا الله.

  7. يقول فادي / لبنان:

    حياك الله أخت منى-الجزائر
    وسلامة قلبك
    وحيا الله الجميع

    1. يقول منى-الجزائر:

      الله يسلمك ياطيب…
      حياك الله وبياك
      تحية لك ولكل اهلنا الاشراف الاكارم في لبنان
      وتحية لقراء عمود الاستاذ صبحي حديدي.

إشترك في قائمتنا البريدية