يأتي بيان البرادعي مفاجئا، تعليق يبدو كما لو كان على هامش أزمة اقتصادية محتدمة واستقطاب اجتماعي حاد، من شخص بات بالفعل يثوي على الهامش.
ذكرنا البرادعي بنفسه بعد أن تخطته الأحداث ونسيناه، كما أعاد إلى أذهاننا حلقة مفصلية خطيرة ومؤسسة في تطور مسار الثورة أو بالأصح الغدر بها.
درجنا على استعارة تشبيه إلقاء الحجر في البحيرة الراكدة، لكن الأدق أنه أثار غبارا من أرضية بحيرة السياسة الجافة، ذلك الوضع الذي أسهم هو في إيصالنا إليه.
جليٌ عن البيان أن الرجل يريد أن يبرئ ساحته، أن ينقي طرف ثوبه الذي يود أن يراه الناس كما يراه هو أبيض ناصعا من أي دم أو أدران قد تكون لوثته، أن يغسل يديه. وقد أثار البيان الكثير من التعليقات من اليمين واليسار، كما هو متوقع.
من الطبيعي، بل من المفيد، أن يتحدث الساسة عن تجاربهم ومشاهداتهم وربما من الأفضل لو دونوها في مذكرات، لاسيما لو كان الحدث بحجم ثورة وكان المتحدث مشاركا فيها وقريبا من مركزها، بكل ما تتسم به من مد وانحسار وما تحفل به من مفاوضات ومناورات؛ كل هذا من طبيعة السياسية ويكسبها زخما وثراء ويرفد رؤى متعددة، بيد أن المشكلة أن الاستقطاب في مصر بلغ حدا بات معه كل معسكر، مع/ ضد النظام، متمترسا وراء سردية يرفض نقاشها أو مراجعتها، وكثر الكلام واللغط ونسجت حكايات وأساطير ترسخت وبات كل معسكر يؤمن بها كأحاديث وأسانيد الفرق والطوائف الدينية، وبالتالي فإن كل طرف سيستخدم بيانه ويلويه بما يخدم وجهة نظره وانحيازه، فالمسألة في الحساب النهائي كما كانت وستظل دائما، مسألة اختيار وانحياز.
إلا أن للبيان (وفقا لصاحبه) رسائل واضحة: بداية فالرجل يدين مسار الأحداث ويراه انحرافا واختطافا لمسار الثورة، كما أكد (كما فعل من قبل) على أن المساعي كانت متصلة لإيجاد حل أو مخرج سلمي للأزمة وفض اعتصامي رابعة والنهضة وأنه كان يخشى من استخدام العنف ويرى فيه بداية لدائرة مفرغة من العنف والانقسام.
الأهم من ذلك أنه يذكر أن آخرين كانت لهم قناعات ضد ذلك، أي تحبذ العنف وتنشده، والأخطر أنه تلقى تهديدات مباشرة لإصراره على الحل السلمي واستخدم صراحة نعوتا من عينة «عنف وخداع وانحراف».
كلام جميل وإدانة صريحة.
البرادعي: وقائع وأوهام وأساطير
بداية عليّ أن أعترف بأنني أبدا لم (وربما لن) أصل إلى فهم ظاهرة د. البرادعي كاملة، كما أعترف بأنني لم أكن شديد الحماسة له على الساحة المصرية ولا للطريقة التي أُقحم بها في خضم حراك كان قائما بالفعل، وفق معطيات على الأرض لم تكن في حقيقة الأمر في حاجة إليه، على الأقل في رأيي. لست هنا بصدد محاولة لتأريخ تطور مسيرته مع المجال العام في مصر وصولا إلى 25 يناير، وإنما تناول بعض النقاط الأساسية.
لسبب ما ظهر البرادعي في الصورة وتردد اسمه، إبان تصاعد الحراك الشعبي في مصر ضد الركود السياسي والتردي الاقتصادي – الاجتماعي واحتمالات التوريث، كما عبرت عنه قوى شعبية لعل على رأسها العمال في إضراب 6 ابريل 2008 ومجموعات من المهتمين والناشطين في المجال العام كحركة كفاية في مصر.
كان الرجل معروفا في ذلك الوقت نتيجة رئاسته لوكالة الطاقة الذرية، فأجرت المرحومة جريدة دستور ابراهيم عيسى معه حوارا كما فعل عمرو أديب على ما أذكر؛ حينها قدرت كما أعجب غيري بدماثة الرجل وأدبه وعلمه وما بدا من مهنيته.
لكن مشكلتي معه ظلت دائما وأبدا فكرة «الاستدعاء» وشخصية «المخلص» – استدعاء رجل من خارج سياق حراك حقيقي واقع بالفعل يكتسب زخما ونشاطا ويجند أنصارا ويكسر حالة الجمود والركود يوميا، والمخلص الذي يتم إسقاط كافة المزايا والفضائل عليه، ذلك الشخص الذي يصنعه الناس من رغبتهم للتحرر والحياة الأفضل وأشواقهم للانعتاق والتغيير والكرامة الشخصية والوطنية. كنت أرى أن الواقع المصري كفيلٌ بطرح نماذجه وقادته وأبطاله وليس بحاجة إلى ذلك «المخلص» المجلوب من الخارج (أما الوعي المجلوب من الخارج على يد الطليعة فأمرٌ آخر مرحبٌ به).
إلا أن نخبا مدينية ارتأت غير ذلك وروجت للدكتور البرادعي وطبلت وزمرت له. كانت تبحث عن رمز وقيادة. رجل ٌ من خارج مستنقع الحياة العامة في مصر وشخوص الحزب الوطني الكئيبة، لبقٌ متعلمٌ حداثيٌ ذو خبرة سياسية وإدارية ترأس هيئة دولية إبان أزمة كبيرة، والأهم من ذلك أنه لم يتلوث (في نظرهم) بقاذورات ووحل الأربعين عاما الماضية التي استثمر النظام فيها في إفساد الناس وتشويههم وتلويثهم، البعض رأى فيه ضميرا.
من المهم في لحظات كتلك أن نلجأ للمقياس الطبقي لتحليل ظاهرة ما، وعلى ذلك فإني أعتقد أن بعضا من السر في جاذبية البرادعي (ربما لن نعرف السر كله الآن) يعود إلى تزامن بزوغ نجمه وتردد اسمه دوليا مع تفاقم تردي الأوضاع في مصر واحتدام أزمة الطبقة الوسطى في مصر، تلك التي رأت دخلها وقدرتها الإنفاقية ومستوى معيشتها تنخفض فباتت تخشى المزيد من الانهيار، خاصة مع تبلور انحيازات النظام والمنحى الذي كانت ستسلكه لا محالة مع تنفيذ سيناريو التوريث الذي بدا مؤكدا. كما باتت تخشى انفلات آلة العنف لاحقا مع اغتيال خالد سعيد. لقد قر في يقين تلك المجموعات أن وضع مصر ومسارها باتا لا يُحتملان، وأنه لا بد من التغيير، وراقها كلام الرجل المنمق عن ضرورته وأن مصر تستحق أفضل من ذلك، وربما تصور بعضهم أنه بمكانته الدولية بعيدٌ عن بطش يد النظام الثقيلة.
هذا ما أرادته تلك الطبقة المأزومة التي تتخبط في جنبات فشل تاريخي ممتد، لكن هل هذا الرجل حقا هو من تبحث عنه ليقود؟ لنر.
لقد كرر الرجل أكثر من مرة أنه لن يخلص أحدا كما أبدى اهتماما بالشباب، وأكد على محدودية دوره. لقد تصرف دائما ككائن عابر للاحزاب والتيارات. مهمٌ للغاية أن نذكر دائما أنه ليس ذا مزاج ثوري بالمرة، بل لقد كان على استعداد للتعامل والتعاون مع نظام مبارك بالنصح والإرشاد، فهو أبدا لم يقاطع نظام كهذا، كما ينبغي لثوري أن يفعل، وعلى ذلك فهو ينضم إلى ذلك القطاع الواسع ممن كانوا (ومازال بعضهم) يعتقدون في إمكانية إصلاح النظام من الداخل أو الخارج، وكما كتبت من قبل فإن وهم إصلاح هذا النظام كالحماقة، يعيي من يداويه. بيد أن ثورة قامت، ووُضع الرجل في صدارة وجوهها في الوقت المناسب.
مشكلة البرادعي ليست فيه فحسب، وإنما في أوهام طبقة تريد التغيير دون التغيير، تحسين الأوضاع دون نسف أصل الاستغلال بما قد يهدد مزاياها السابقة، فهي تنظر إلى الماضي، إلى مجد غابر تريد أن تستعيده، لا أن تمضي للأمام، لذا فقد جاءت اختياراتها وتعاملها مع مسار الثورة اللاحق حركة في المكان الثابت مما ساعد على بقاء النظام واستدعاء أداته الأعنف والأكثر تنظيما، الجيش.
ما بعد 3 يوليو
تقلد البرادعي منصب نائب رئيس الجمهورية وصولا إلى فض رابعة، وهنا لا بد لنا من وقفة: في بيانه يهاجم البرادعي حكومة العسكر الحاكمين بإذاعة تسجيلات لمكالماته، ما يعد مخالفا لكل القوانين والدساتير والقيم الخ ويشبه ذلك بالأنظمة الفاشية (كأن النظام بعيدٌ عن ذلك). السؤال هنا: هل البرادعي بخبرته من السذاجة بمكان ليتوقع أفضل من ذلك من طغمة عسكرية قامت بانقلاب واعتقلت رئيسا منتخبا، أيا كان الخلاف معه؟
لا أظن ذلك، ولكنني أعود فأؤكد أن مرد ذلك إلى سوء فهم عميق لطبيعة النظام ودور المؤسسة العسكرية فيه. يبدو أنه تصور أنه يستطيع امتطاء الحصان العسكري وصولا إلى نوايا سوف نحسن الظن فيها فنحسبها طيبة من تعددية سياسية وحكم القانون والإصلاح الهيكلي للدولة والعدالة الاجتماعية الخ، لكن ما حدث كان العكس، حيث استغل الضباط مكانته العالمية وعلاقاته وسمعته الطيبة (مقارنة به) لإضفاء طابع أنيق ومقبول، غطاء للقبح الحقيقي، وهو ما يوازي فعليا أزمات الوقود والكهرباء التي سبقت الانقلاب؛ أنا هنا لا أعفي الإخوان من المسؤولية وإنما أؤكد أن الغطاء المدني لمشروع الانقلاب كان معدا ومفعلا، بذا، ينحصر دور البرادعي في توفير غطاء سياسي لائق للقضاء على السياسة، وهو ما يقوم به الجنرالات.
ثم أبعد نفسه عن ذلك المستنقع الموحل تاركا إياه لأولئك المستعدين للاستمرار والنضال ودفع الثمن ممن لا تحميهم حصاناتٌ دولية أو نوبل. (بالمناسبة أنا لست منهم ولا أرقى لهذا الشرف)
لماذا الآن؟ سؤالٌ مشروعٌ تماما. لماذا تذكرنا؟ قد لا تكون الإجابة متاحة الآن، وقد لا تتضح أبدا. هو يزعم أنه إنما يرد على حملة تشويه، لكن الحقيقة أن تلك الحملة خيضت بأعنف من ذلك بكثير في وقتها، بل قد نسيها الناس في خضم الأزمات والكوارث اللاحقة. الملاحظ أن البرادعي كان دائما يظهر مع اقتراب تغير ما، ربما حدسه صادق، وعلى ذلك فلعل مراقبته لتردي الأوضاع في مصر سياسيا واقتصاديا وما يبديه النظام من تخبط في سياساته الاقتصادية، ناهيك عن القمع، كل ذلك ينبئه باقتراب شيء فهو يأمل بعودة للساحة واستهل ذلك بتبييض صفحته. ربما.
ختاما، لا شك أن البيان بإدانته لعنف النظام وتأكيده على النية المبيتة له وخداعه مفيد، إلا أنه كما يقول الإنكليز: قليل جدا ومتأخر جدا.
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل