تاء التذكير وواو النسوة

حجم الخط
1

بعد صدور ديوان الرسم بالكلمات للشاعر الراحل نزار قباني أجرت معه سلوى حجازي حوارا تلفزيونيا في القاهرة بدأته بسؤال قد يبدو محرجا للشاعر هو كيف يكتب عن المرأة من الداخل؟ وهل يتقمّصها أم أنه يستثمر حصاد خبرته معها؟ فأجاب نزار أن في داخله نساء وليس امرأة واحدة، وهناك من أساؤوا فهمه ممن تقودهم البوصلة الجنسوية إلى تداعيات وأخيلة مأهولة بأشباح الذكورة.
وكان الشاعر الفرنسي أراغون قد استبق نزار قباني بعدة عقود حين كتب عن إلزا مشحونا بتراث العذرية في الشعر العربي قائلا إن المرأة هي مستقبل الرجل، وفي الحالتين كان لدى الشاعرين تجاوز لثنائية التذكير والتأنيث بالمعنى البيولوجي، ثم جاء بعدهما من يتنبأ بتأنيث التاريخ الذي كان على الدوام ذكرا، وهو فوكوياما صاحب أطروحة نهاية التاريخ، وتشاء المصادفة أن أكتب هذه السطور في وقت تولت فيه نساء مقاليد الحكم في بلدانهن ومنهن من وصفن بالنساء الحديديات، كما أن تأنيث البيت الأبيض اصبح وشيكا، بعد عقود من التأنيث المتقطع للدبلوماسية الأمريكية حيث تولت إدارتها نساء مثل مادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وهيلاري كلينتون أيضا.
وهناك من بدأوا أو بدأن بالدعوة إلى تأنيث منصب الأمين العام للأمم المتحدة مما يجزم أن الأنوثة لم تعد حبيسة القفص الذي وصفه هنريك أبسن في «بيت الدمية»، وقد عرف التاريخ من قبل ملكات كما عرف الأنوثة المسلحة للنساء الأمازونيات المحاربات اللواتي كنّ يبترن أثداءهن كي لا تعوقهن عن استخدام القوس لإطلاق السهام. لقد غادرت تاء التأنيث موقعها في الحياة، ولم تعد أسيرة المعاجم وفقه النحو، وكذلك واو الجماعة التي لم تعد المعادل النحوي واللغوي للشاربين واللحية وما اقترن بهما من أوهام الفحولة، وقد يُدهش أبناء وبنات هذا الجيل إذا عرفوا أن هناك من أجدادهم من تظاهروا احتجاجا على إطلاق اسم جامعة لأن الجامع لا يقبل التأنيث.
التأنيث والتذكير الآن لهما مفهوم مغاير لكل ما تأسس على المفاضلة العضوية، لكن من تشبثوا بأيديولوجيا الذكورة وصدقوا خرافة الفحولة يواصلون الإنكار لهذا التحول في المفاهيم، رغم أن تاريخنا العربي منذ بواكيره في الجاهلية لم يضع فاصلا جذريا بين نون النسوة وواو الجماعة، سواء من حيث وجود محاربات أو من خلال العصيان الذي مارسته نساء ضد أزواجهن إذا عادوا مهزومين من الحرب، وثمة أشعار تصرح بذلك ولا تكتفي بالإيحاء به، فهن كما توعدن أزواجهن يفارقنهم إذا هزموا ، ويفرشن لهم النمارق إذا عادوا منتصرين.
وحين تنسب منظومة قيم كالفروسية والشجاعة إلى الرجولة فذلك احتكار جنسوي لا يخلو من احتقار أيضا، لأن هناك ذكورا ليس لهم نصيب من هذه الصفات، ويصدق عليهم ما كتبه ديزموند موريس في كتابه الشهير عن «القرد العاري»، مقابل نساء لم تعقهن نون النسوة أو تاء التأنيث عن ممارسة أدوار بطولية كالنهضويات المبشرات بتحرير المرأة بدءا من هدى شعراوي في تاريخنا المعاصر أو من احترقن لإضاءة ظلام أوروبا من طراز جان دارك وشارلوت كورديه التي صفعها ذكر بعد أن تدحرج رأسها خارج المقصلة وكانت من أبرز امثلة البير كامو في كتابه الذي حمل عنوان «المقصلة».
إن واو الجماعة لا تصنع رجالا بالمعنى الذي نتداوله أخلاقيا وتاريخيا، كما أن نون النسوة ليست زنزانة أبدية للمرأة، وما قاله نزار قباني ومن قبله أراغون عن الأنوثة باعتبارها مفهوما حضاريا لم يفهم في أوانه، ويروى عن أراغون أنه قال ذات يوم لشاعر كان يقرأ قصيدة أمامه وبصحبة إلزا، لماذا تنظر إليّ فقط أثناء قراءتك، إن تجاهلك لهذه المرأة مريب وهو يعود إلى أحد سببين أولهما إنك تقرأ شعرك لها وتحاول إخفاء ذلك، أو إنك تستجيب لذكورة التاريخ ولا ترى في الأنثى إلا مجرد صدى أو ظل للذكر.
وواقعنا العربي الذي تحول إلى حفلة تنكرية تم فيها تبادل الأدوار من خلال الأقنعة تغيرت حتى دلالات النحو في لغته فالفاعل منفعل والمبتدأ خبر والجار مجرور والمفعول لأجله مفعول به، وتلك حكاية لها مقام آخر.
إن عدد ما يطلق عليه جرائم شرف في العالم العربي خلال شهر واحد يدفعنا بقوة إلى القول بأن كل ما يطفو على السطح لا علاقة له بباطن المجتمع وإن القاسم المشترك الأعظم الوحيد بين اليساري واليميني والليبرالي هو النظرة إلى المرأة، لكن ذلك يتطلب إخضاع هؤلاء لاختبارات يتضح من خلالها منسوب الصدق أو الادعاء في الإطروحات النظرية المتأنقة والمرصعة بالمصطلحات فاقدة الدلالة. كم فدائية عربية أعاقتها نون النسوة أو تاء التأنيث عن أداء دور بطولي؟ وكم واو جماعة كان لها أثر من قريب أو بعيد في الحراكات السياسية والوطنية في العالم العربي؟
أليست مفارقة أن نكرر منذ ستة عقود عبارة الجزائر بلد المليون شهيد، رغم أن أشهر هؤلاء هن شهيدات أو جميلات أصبحن رموزا في ثقافتنا، ولم أسمع أو أقرأ مرة واحدة أن الجزائر بلد المليون شهيدة وشهيد، لأن التاء سواء كانت مربوطة أو مفتوحة اقترنت بفوبيا ذكورية لدى من تربوا في بيئات تدق فيها الطبول إذا كان المولود ذكرا وتؤنب المرأة اذا كان المولود أنثى.
لقد بلغ فائض التذكير في ثقافتنا إلى الحد الذي ترجمت فيه كلمة إنسان إلى رجل بدءا من عبارة الإنسان هو الأسلوب.

٭ كاتب أردني

تاء التذكير وواو النسوة

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بن نعوم ابراهيم:

    لاتحزن ولا تتابط شرا من وصول لغتنا العربية او ان شئت لساننا الذى به نقوم ونقعد ولا ندري انحن فى شر اريد لنا ان ربنا يخالف ارادتنا كوننا لا نصدق القول والفعل فى امور النهى والامر التى حملنا اياه بواسطة كتبه السماوية وانبيائه المرسلين عليهم ازكى الصلوات والتسليم . اليوم وصلنا الى حافة بداية نهاية مجمل ما نملكه من قيم ترتبط بمدى انكارنا لذاتنا التى صارت طابوهات لا يمكن الفكير فيها او الحديث عنها وحولها اننا انكرنا ما هومتمكن فى حياتنا وجميع تعاملاتنا ومفردات خطاباتنا التى ترتجف من عبور اسماء من الانوثة التى كان لها المكان المميز والمرموق فى صناعة التاريخ وبناء امجاد نكاد نضيعها بالكلية كونها تحمل الانوثة بشكل او اخر
    فى تاريخ الجزائر الحديث تعبر اسماء الانوثة التى تمكنت من تكتسب مقدرات الارتقاء والسمو وبناء صروحا من الامجاد الا ان العبور على طريق صناعة التاريخ نراه يختزل بشكل ييييبدو وكانه برئ من الشك والتقليل من شان الانوثة فى التفوقوالارتقاء خلال التاريخ الحديث للجزائر نجد ان ملء صفحاته ما يليق من القول فى حيثيات النصر او المسير اليه يتم التقليل من عنصر الاثر الانثوى فى تلك المصنوعات التاريخية بينما العكس هو غير ذلك حيث ان المراة كانت الظل الملازم للمنتصر فى انتصار وفى صفحات التاريخ ما اكبر واكثر يمكن الاتكاء عليه لرد التظلمات التاريخية من مكتسبات الامة ومراجعتها ما بين استرداد الحق الانثوى ومعادلته بالذكورى ولو لمصلحة التاريح

إشترك في قائمتنا البريدية