يلاحق الأطباء كلما حلوا في أصقاع المعمورة سؤال ملح ممن يلتقي بهم من العامة عن سبب استفحال هول الوفاة المبكر سواء بداء السرطان، أو السكتة الدماغية، أو الخناقات الصدرية، أو الموت البطيء المؤجل التنفيذ بأشكاله المختلفة، وأهمه مرض الزهايمر.
وغالباً ما يلجأ الأطباء إلى نهج تدوير الزوايا الدبلوماسي لاتقاء الإجابة الواضحة القاطعة عن ذلك السؤال المؤرق للبشرية بكل مكوناتها، الذي يرتبط أساساً بعدم قدرة الطب الحديث على إيجاد علاج لتلك الأوبئة المستفحلة التي تفتك بالبشر، نظراً لارتباط مسبباتها بشكل عضوي عميق بنمط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية القائمة في عالمنا المعاصر على مقاومة كل ما هو طبيعي وعلى مرتكزي «التدمير والهدر» وفق توصيف المفكر نعوم تشومسكي، وإحساس الإنسان بحقه المطلق في تطويع واستغلال كل مكونات الكرة الأرضية في سياق سعيه الدؤوب للربح السريع، بغض النظر عن الخاسرين المباشرين أو غيرهم في سياق تلك الدوامة الاستغلالية، حتى لو كان هو نفسه وعائلته من ضمنهم، لوقوعه في شبكة عنكبوت نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يقتضي منه الالتزام الدائم بالسعي فقط لتحقيق الربح وتعظيم الثروة باستمرار، وإلا أخرج عنوة من موقعه، وترك فريسة للجوع والفقر. وهو في الواقع مضطر للقبول بكل مفاعيل تلك المعادلة التدميرية الكارثية لأنه باختصار ليس له إلا أن يبيع قوة عمله، سواء كان مديراً أو عاملاً صغيراً في ماكينة الاقتصاد الرأسمالي المعولم، الذي لم يبق على بقعة في أرجاء الأرضين إلا واستهدفها للاستيلاء عليها وإدماجها في منظومته، سواء بشكل عياني صارخ، كما كانت حال العراق المهيض الجناح، أو بشكل مخاتل كما هو الحال في حكاية الانفتاح على كوبا وإيران والصين، التي لم يعد من عظمتها شيء سوى جيش عمالها الجاهزين دوماً للعمل كوقود لا ينضب لتلك الماكينة المهولة. وتبدأ حكاية الموت المبكر لبني البشر مع بداية الثورة الصناعية التي قامت على المحركات البخارية ووقودها الفحم الحجري، وذلك الأخير هو في الواقع عبارة عن بقايا الكائنات الحية بأشجارها وما دب منها على الأرض، والتي خزنت في رفاتها الكثير من الكربون الممتص من الغلاف الجوي، بالإضافة إلى كميات هائلة من المعادن السمية التي امتصتها خلال حيواتها البائدة من الغلاف الجوي ودفنتها معها في باطن الأرض على امتداد أحقاب جيولوجية سحيقة، ثم تطورت حسب توصيف الباحثة البيئية الطليعية نعومي كلاين لتصبح كإسفنجة كونية تعمل بدأب لامتصاص كل العناصر السمية التي تتسرب إلى باطن الأرض مع مياه الأمطار، فتترك المياه الجوفية بشكلها النقي الذي تدفقت منه مياه الأنهر الأولى التي كانت مهد البشرية ،سواءً في النيل العظيم، أو فرات الرافدين، أو غانج وادي الهند، أو يانج تسي الصيني، التي استمرت جميعها تسقي البشر، وإعادة إنتاج حيواتهم طبيعياً مطلع الثورة الصناعية، حينما ظن الإنسان بقدرته على تحوير وتغيير قوانين الطبيعة استناداً إلى جبروت الطاقة التي يولدها من حرق الفحم الحجري والنفط الذي لا يختلف عن ذلك الأول سوى بكونه أقل عمراً جيولوجياً، ولو أنه ترك لسياق تطوره الطبيعي لتحول إلى فحم حجري في نهاية المطاف. والنتيجة الصحية الكارثية المعتم عليها إعلامياً لتراجيديا التجبر التاريخي على قوانين الطبيعة هو الكم الهائل الذي يتم تحريره من العناصر السمية عند حرق الوقود الأحفوري فحماً حجرياً كان أو نفطاً، التي اختزنها قمقمه لملايين السنين في باطن الأرض، من قبيل اليورانيوم، والزرنيخ، والرصاص، والزئبق، والكادميوم، والكروم، والسلينيوم، التي تختلط أبخرته الناتجة عن عملية الاحتراق تلك بقطيرات الغمام فيما يدعى الضبخان، الذي سوف يتساقط بعد حين مطراً يسقي كل أشكال الحياة على وجه البسيطة، أو في أي من بحور الكون المتصلة فيما بينها، ليعود ويصل في سياق السلسلة الغذائية المتداخلة والمتشابكة إلى جسم الإنسان المعاصر العليل، سواء عن طريق الماء الذي يشربه، أو يحليه من ماء البحر، أو الغذاء الذي يقتات به، دون أن يكون له مهرب من ذلك على الإطلاق، فالغيوم لا تعرف معابر حدودية في دورانها في الغلاف الجوي، وهو ما تجلى في مأساة أن يصبح الأطباء مضطرين لنصح العامة بالتقليل من استهلاك معظم الأسماك أو تجنبها، التي هي من الناحية النظرية أفضل مصدر غذائي للبروتين الذي يحتاجه الإنسان، نظراً للمستويات المهولة من الزئبق والرصاص والزرنيخ والكادميوم فيها، وجميعها مسببات معروفة لأشكال مختلفة من السرطان، والكثير من الأمراض العصبية، والعقم عند الرجال والنساء، وللتخلف العقلي عند الأطفال.
من ناحية ثانية تقف حكاية الجزيئات الصغرية (نانو بارتيكلز) التي استنبطتها الصناعة الحديثة لأجل تحسين مستويات احتراق الوقود الأحفوري المكرر، لكي ينعم البشر باستخدام سيارات تبدو لهم وكأنها طائرات نفاثة، دون أن يدري البشر بأنهم يستنشقون ما بين 60-80 مليار جزيء من تلك المركبات الصناعية في كل ساعة في الحواضر المزدحمة بسياراتها، دون أن يشعروا بذلك على الإطلاق، أو تتمكن مصفيات أجهزة التكييف في سياراتهم الفارهة من تنقية ما يتنشقونه من تلك الجزيئات المجهرية. والطامة الكبرى في تلك الجزيئات الصغرية أنها تتمكن بسهولة من عبور الحاجز الهوائي السنخي في الرئة، لتدور بعد ذلك مع الدم على كل أعضاء الجسم، وتتراكم تدريجياً مع الزمن في أنسجة الدماغ، لتنتج بلادة مبكرة لدى العديد الكهول في الحواضر المكتظة بسياراتها، والأهم من ذلك كله هو عملها كسكين تجرح باستمرار بطانة الأوعية الدقيقة في كل أنحاء الجسم، خاصة في الشرايين الإكليلية مسببة احتشاءات قلبية صاعقة، وكذلك الأوعية الدماغية الدقيقة في الأم الحنون لتسبب السكتات الدماغية المباغتة، التي من الممكن أن ينتهي أي منهما بوفاة مفاجئة مبكرة، وغير مبررة لدى الكثيرين.
نعم، لقد طغى الإنسان وتجبر، وظن أنه قادر على تطويع ومقاومة قوانين الطبيعة، وتدميرها بكل ما أوتي من طاقة مصدرها حقيقة هو نبش قبور أسلافه، والإيغال في التفنن في تقنيات حرق رفاتهم، وهو يعرف حق المعرفة عقابيل ذلك الكارثية، المثبتة علمياً، دون أن يبذل جهداً في ترشيد ذلك الغيّ والغلواء المنفلتين من كل عقال، حتى أصبحت لعنة نبش القبور تلاحقه لتنتقم منه في صحته ومستقبل أبنائه وأحفاده، وسوف يصبح في قابل الأيام وكأنه الجحيم الإلهي المقيم على الأرض.
كاتب سوري
د. مصعب قاسم عزاوي