فنجان قهوة صباحي متقن التحضير، طاولة وأوراق وأقلام أو جهازلابتوب ويصبح كل شيء جاهزا للكتابة، ينساب الشعر بين رشفة ورشفة، وتتوالد الجمل جملة بعد جملة مع رائحة القهوة الزكية ومفعولها السحري على أدمغة الكتاب.
لا شيء يوحد الكتاب والشعراء إلا هذا «المشروب المحترم» الذي رافق ويرافق ولادة أروع النصوص الأدبية في كل أقاصي العالم. وقبل القهوة لا أدري كيف كانت تولد الحكايات والقصائد وبأيّ نكهة. فما أعرفه هو أن المقاهي أماكن حميمة يعشقها أهل الأدب، وقد كُتِبَ الكثير حول هذا الموضوع، لكن لا أحد توقف عند براعة القهوة لجعل مخيلات المبدعين تنتج الأجمل والأقوى.
ولا شك أن الأمر يبدو غريبا حين نعرف مثلا أن أونوريه بالزاك دمّر نفسه بالقهوة، من أجل أن يكتب، إذ كان يشرب ما يفوق أحيانا الخمسين فنجانا من القهوة بدءا من الساعة الواحدة صباحا، وقد أتلف أعصابه وتسبب في إصابته بالضغط المرتفع وقرحة في المعدة، ومات مبكرا وهو في سنته الأولى بعد الخمسين، لكنه ترك نتاجا ضخما خلال تجربته الإبداعية القصيرة تلك.
وسابقا ذكرت لكم جنون بيتهوفن وهو يعد عدد حبيبات البن التي يصنع منها قهوته، إذ يجب أن تكون ستين بدون زيادة أو نقصان ليكون مذاق القهوة على ذوقه. جنونه هذا ظل علامة فارقة تميزه عن غيره إضافة إلى علامات أخرى. ومع أنّ المدمنين على القهوة من أهل الأدب والفن كثر، لكني لا أعتقد أن أحدهم يقدم على شرب مقدار ما يشربه بالزاك يوميا.
القهوة هي التي جرّت الكتاب إلى المقاهي، بحثا عن عزلة وهمية وسط ضجيج الحياة، وعن نادل يحضر فنجان القهوة بدون أن يتدخل في أمورهم. الكثيرون يهربون إلى المقاهي من زوجاتهم وأولادهم ومن الأهل والأقارب الذين يشوشون عليهم بقصد أو بدون قصد. ولعلّ الزوجات أكثر إزعاجا لأزواجهن الكتاب، الذين إن طلبوا فنجان قهوة من أجل مزيد من التركيز، جاءهم الفنجان بثرثرة تفسد المزاج كله.
والصراحة تقال بطل هو الكاتب الذي يكتب في بيته بحضور زوجته، لذا يبدو الهروب إلى المقاهي خلاصا حقيقيا من كل منغصّات الكتابة. وأعتقد من هنا ولدت ظاهرة المقاهي التي يجتمع فيها الكتاب، ثم بعدها ظهرت المقاهي الأدبية التي يروي فيها الحكّاؤون قصصهم ويلقى فيها الشعراء قصائدهم، وتقام فيها المناقشات الأدبية والسياسية، حتى بلغت مقام المدارس والجامعات، بل إن فيكتور هوغو في زمنه قال،
«المقهى برلمان الشعب» معطيا مقاما أرفع للمقهى بحجم البرلمان.
ولعلّ مقولة هوغو فيها من التأويلات ما يمكّننا من اعتبار المقاهي الوجه الحقيقي للأمم، فكيفما كان وضعها يكون حال شعوبها وأنظمتها. لكن من أين أتت القهوة؟
الشعوب التي عرفت قيمة القهوة، اتفقت على أن للقهوة ثقافة حتى إن كانت مقبلة من إثيوبيا أو زائير أو اليمن، فالمشروب نافس الخمور والتبغ وكل أنواع المنبهات ومحفزات الدماغ من أجل الكتابة. ثم أن شاربي القهوة الحقيقيين كانوا ولا يزالون من النخبة، يعرفون مذاق قهوتهم ويستحيل أن يغيروه. يطلبون قهوتهم في فناجين معينة، وتلك العلاقة الحميمة والسرية التي تنشأ بين الكاتب ونوع قهوته وفنجانه علاقة دقيقة لا تقبل الشراكة مع أحد. بالنسبة لأغلب الكتاب المرأة ليست ملهمتهم الأولى ولكن فنجان قهوتهم المعتاد، إذ تأتي المرأة بعد الفنجان الثاني أو الثالث وأحيانا العاشر.
شعراء القهوة إن صح تسميتهم كذلك تغزّلوا بالقهوة وكأنها الحب الأول لهم، وهناك من القصائد في التراث الشعري المحكي ما لا يمكن إختصاره، يصف محاسن المحبوبة «القهوة» بأوصاف لا تخطر على بال، بل إن البدو وقبائل بأكملها من أبناء الخليج يعتبرون شرب القهوة علامة من علامات البلوغ تسبق طبعا الوقوع في حب صبية، واختبار مشاعر العشق الأولى. للقهوة تلك المكانة الرفيعة التي يمنحها الإنسان لنفسه حين ينسى كل حقوقه ورغباته. جوهان سيباستيان باخ ألّف أوبرا كوميدية قصيرة أطلق عليها إسم «قهوة كنتاتا» حملت في طياتها نبوءة غريبة أخبرت باكرا بقوة القهوة على تغيير وجه العالم. المخرج الأمريكي ديفيد لينش عشق القهوة لدرجة أنه قدمها في كل أعماله في أبهى صورها، البعض قال إنه كان يحشرها حشرا لمتعته الشخصية، لكنه على الأقل عشق القهوة وليس التبغ.
ولنتفق على أن قائمة عشاق القهوة لا حصر لها، وتأثيرها عليهم أثر في مسار التاريخ كله، ولنتخيل أن ثيودور روزفلت لم يشرب براميل القهوة التي احتساها في حياته، تراه كان ليتخذ قرارات حاسمة وذكية في زمن توليه الرئاسة وقبلها؟ فقد تساءلت كثيرا بيني وبين نفسي لو أن الأدمغة التي نسلمها مصائرنا وأرواحنا وقلوبنا لم تتعاط أي محفزات أو منبهات أو مخدرات ما كانت سلوكاتها تجاهنا؟ ما النتاج وما النتائج لأدمغة تعتمد كيمياءها الخاصة في كل ما تنتجه؟ موضوع «كيمياء الأدمغة» تحديدا يشغلني كثيرا، ولطالما رأيت الأمور من خلاله، بقياس كل أحداث العالم حسب تلك الكيمياء.
الشعوب الخاملة، لا تعرف معجزات المنبهات والمنشطات، وهي لكثرة كسلها تعتقد أن حلاوة الحياة تكمن في النوم والاسترخاء والجلوس والتمدد وتطوير «ثقافة الكسل» بمزيد من النظريات والأفكار. شعوب العالم الراكض نحو منصات النجاح تقتني كل ما يمكن أن يجعلها تنتج المزيد بأفكار جديدة بأثمان باهظة. ولا غرابة إن عرفنا أن من يقدمون أطيب أنواع القهوة للعالم يمضغون القات ويستسلمون لما تحمله لهم الأيام تحت تأثيراته فباب النجّار مخلوع كما يقول المثل. ربما أنا مخطئة.. لكن حبات البن السحرية تولد في البقاع التي يظللها الكسل، وتهاجر حيث الحياة مشرقة أكثر، وتحتاج لمن يرقص في رحابها.
لماذا خطر ببالي هذا الخاطر اليوم؟
فنجان قهوتي الصباحي كان السبب، حين استيقظت متأخرة، والتحقت باجتماع مهم بدونه. سقت كالمجنونة لأصل في موعدي، وأخذت مكاني بين المجتمعين والقلق يشوش أفكاري، وبمجرّد أن وضع أحدهم فنجان القهوة أمامي واستحوذت عليّ رائحته حتى حلّت السكينة في داخلي.. رشفة أولى فإذا بالكلام ترتّب في رأسي.. رشفة ثانية فإذا بالصورة مكتملة أمامي.. ورشفة بعد رشفة فإذا بالجلسة تحلو ويحلو معها الكلام.
نخط بعض مصائرنا ونحن نحتسي فناجين قهوة، نتصالح ونبني جسور محبة في حضرة ركوة قهوة، وقد قال رجل أعمال ناجح «يخطط للمشاريع بكؤوس النبيذ وتنفذ بفناجين القهوة» لعلّه صح، وهو يلمّح لقوة القهوة على الإنسان لتحويل أفكاره إلى حقائق ملموسة.
أما ما يلفت الانتباه فعلا فهو المقاهي الجديدة التي بدأت تظهر في بعض الدول الأوروبية بحيث تمنح لكل شاعر أو كاتب فنجان قهوة بدون أن يدفع ثمنه فقط لأنها تُقَدِّر حضوره وتعتبره دعاية ممتازة للمقهى ولنوع القهوة الذي تقدمه.
وفي ثقافة أخرى فنجان قهوتنا في حد ذاته كتاب يختصر محطّات حياتنا، بكل ما فيها من علامات كبيرة لبعض الخيبات والخسارات والنجاحات أيضا، وكل ما نحتاجه لقراءة تلك الشيفرة « قارئة فنجان» تلك التي ألهمت نزار قباني ليكتب واحدة من أروع قصائده وخلّدها عبد الحليم حافظ بصوته ومحمد الموجي بموسيقاه وخلّدتهم معا بشيفرة مكتوبة بخطوط التّفل لم نعرف سرّها إلى اليوم.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
well done
*بارك الله في كل المبدعين
وفي جميع المجالات سواء
كانوا مدمنين قهوة أو مدمنين
شاي مثلي وتحية الى المبدعة
الأخت بروين وشكرا.
سلام
صباح الخير د.بروين حبيب:
قرأت مقالك هذا الصباح وقهوتي لاتزال في فنجانها بعبق”الشيح”
فالتأذنِ لي بأن افضفض وأخدثك عن قصّتي مع القهوة؛انا ياسيدتي من مدينة يقال وأقول من زار الجزائر ولم يشرب فيها القهوة،فاته من الطعم الأصيل الكثير.
هناك مايشبه الإدمان عليها هنا؛ ترتب عنه طقوس في اعدادها؛فالنسوة يقمن بتمحيص القهوة بلذّة وشغف كبيرين؛ اعمدة عبقها المتصاعد في فناء المنزل يعبّق الأرجاء،يتخلل روحك وانت تمرين قرب تلك البيوت؛وهذا الفن في التمحيص والطحن يأخذ اوجها متعدّدة،اذ من المتطرفين “نسوة ورجالا” من لايقبل بالقهوة الاّ وهي محمصة ومطحونة للتو.!
وهم كثر على فكرة وليسو اقليّة.وأذكر جارتي التي اسمع كل يوم الساعة السادسة والنصف صباحا؛ ماكنتها الكهربائية وهي تطحن في بنها، فتطحن قلب من حضّرت قهوتها بأيام . ولا تستغربي ان قلت لك ،ان بيوتا ليست قليلة لا يطفئ وهج النار يوما كاااملا ويبقوه على درجة خفيفة فقط كي لاتبرد القهوة ،،،،!!!
وتعطّر القهوة ب”الخرجلان” أو”الشيح”او”الفلفل الاسود”.
أما عني انا؛ فلاتحلو جلساتي الاّ بالقهوة؛و قد احببت رجلا هو ابو اولادي،مدمن ومتطرف في حبّه للقهوة.
ها قد جاء سموّه الآن وهو يطلب فنجان قهوة….!
فدعيني أحضّر فنجانه ،لأكمل فنجاني…
وللحديث بقية….
في امان الله ياأميرة…..
مقال شيق وممتع. انا شخصيا لا استطيع الكتابة بدون قهوتي المفضلة، المفارقة انني لا اشربها الا اذا حضرتها بنفسي، اما ان حضرتها زوجتي او ابنتي، فلا أشعر بطعمها مطلقا.
إذن : ( في فمي قهوة ) وليست لؤلؤة ؟
يا اخر سلالة النبلاء بروين
أقدس فيك روح الانتباه الى الأشياء البسيطة الي تشكل جوهر حياتنا
تكتبين عن القضايا الكبيرة كما تكتبين عن التفاصيل الروتينية التي تضبط قوانين العمر
يا الهي من قهوة الصباح !!!!
العمر كله كلمة مرادفة لقهوة الصباح
لا وجود لي بدون قهوة الصباح
و لمقاهي باريس صدى تاريخي يبحث عنه كل زاءر
و لعل كتاب الصحافية هدى الزين عن المقاهي الأدبية في باريس يجسد لنا مدى ارتباط المبدعين بعالم المقاهي
حدث وان سجلت حوارات إذاعية برفقة القهوة حيث الحميمة تنسج خيوط الأسئلة
قهوة الصباح تمحو أحزان الليل !!!
الحياة تبدء مع قهوتي الصباحية
كثيرا ما نكتب نصوصا ونقرأ أخرى بنكهة القهوة وكأن هذه النصوص تشربت القهوة فلا زمتها رائحتها ونكهتها ال’خادة ـ تحياتي
ومن العشق ماقتل .. حلاوتها في سوادها ومرارتها!
شكرا على هذا المقال ذو الاسلب الاخاذ.
أقترح عليك هذا الكتاب الفذ :جمالية الدين لفريد الانصاري
سترين من الجمال ما لم ترينه من قبل. وكأنك خرجت من قفص الرحم إلى سعة الدنيا.