كل الخيرات الموهوبة والفضائل الممنوحة والجرائم السياسية، والانقلابات العسكرية، ومسودات وإعلانات الدساتير المؤقتة، تربط في ديباجة بياناتها ، الذي بوأته الديمقراطية الحديثة السيادة المطلقة، بعد أن كانت في فصول تاريخية سابقة مرهونة ومفصلة على مقاس تعاليم الكنيسة المسيحية وقدسية خلفاء الله على الأرض. ولعل المشهد التاريخي الاستثنائي الذي سجله عصر يوم الأربعاء 3 تموز/يوليو 2013 في تاريخ مصر، على إثر إعلان الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري. نيابة عن القيادة العامة للقوات المسلحة، عزل رئيس الدولة المنتخب، استجابة، كما يقول بيان المؤسسة العسكرية، لدعوة جموع الشعب المصري في مختلف حواضره ومدنه وقراه لنصرته وحماية مطالب ثورته، خير دليل على أن كل الإجراءات والخطوات والمبادرات المتخذة في الوقت الراهن تحتمي وتستظل بمعزوفة اسم الشعب، الذي هو مصدر كل السلطات، العسكرية منها والمدنية، بل إنه حتى المستشار عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا الذي عينه الجيش رئيسا مؤقتا للبلاد، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وبابا الأقباط توضاروس الثاني، ومحمد البرادعي رئيس حزب الدستور وعضو جبهة الإنقاذ المعارضة، وأحد شباب الثورة وحركة تمرد، الذين تعاقبوا على منصة البيان التاريخي الاستثنائي، كانوا يفتتحون ويختتمون كلماتهم الموجزة ، الذي يعود إليه الفضل في إشعال فتيل الثورة بنسختي 25 يناير و30 يونيو، والوصول إلى مرفأ خارطة المستقبل التي تصاعد بيانها الهرمي من التعطيل المؤقت للدستور، إلى عزل الرئيس الحالي، وتشكيل حكومة كفاءات ولجنة عليا للمصالحة الوطنية. وكيفما كانت تحليلات وتأويلات وأحكام هذا البيان التاريخي، الصادر نيابة عن الشعب، كما يقول البيان العسكري المؤثث بالحضور الرمزي الديني والمدني، وهل تم إشراك جميع الفصائل السياسية والأطياف الشعبية المتصارعة في صياغة مبدأ الاتفاق الجماعي على هذا القرار المصيري الذي يغير وجهة حاضر ومستقبل هذا البلد العربي، فإن الحديث في القنوات التلفزية والإذاعية العمومية والخاصة، الأرضية والفضائية، وعلى منصات الساحات العمومية، والمنابر الدينية، وميادين الاعتصامات، ووسائل الإعلام المكتوبة، يطرح أكثر من سؤال حول شرعية ومصداقية هذه الوصاية والنيابة في الحديث باسم تسعين مليون مواطن، إذا أخذنا مثلا حالة مصر الراهنة في الداخل والخارج. فليس يكفي مغازلة أحلام الشباب الثوار من دعاة حركة العصيان والتمرد، ودغدغة أحاسيس وطموح الفصائل السياسية المعارضة، واستجداء مناصرة الرموز الدينية المعتدلة أو المهمشة، والعزف على الوتر الحساس للفئات الشعبية المقهورة، وادعاء حماية المواطنين البسطاء وممتلكاتهم ومنشآت الدولة من الخارجين عن القانون و’البلطجية’ والمخربين والإرهابيين والتكفيريين، لانتزاع الحق الناعم في الحديث ، وإقرار ما يمكن إقراره بشهية مفرطة، ليس كمؤسسة من مؤسسات الدولة ذات الاختصاص، ولكن ككيان بديل جاء لنصرة الشعب بسلطة الدبابات والمدافع وخراطيش المياه الحارقة والذخيرة الحية، حتى إن بدا في الميادين والساحات العمومية خروج مئات الآلاف من المعارضين الداعين إلى سقوط النظام ورحيل رئيس البلاد وعشيرته. لأن منظومة الديمقراطية لا يمكن استغفالها بعدد الغاضبين الموقعين على العرائض أو المعتصمين بالساحات المحدودة في جغرافية البلاد العمرانية، كما لا يمكن إخفاء حجم الفصائل الأخرى المؤيدة عنها، لاستعجال تنزيل القرار المطلوب، وتفعيله جملة وتفصيلا على أرض الواقع. واستنادا الى هذا الاعتبار، فإن الحديث لا يمكن أخلاقيا وديمقراطيا أن يخفي في مكنونه تربص المتحيزين والمتآمرين للانقضاض على الجهــة المطلوبة للإسقاط، وإلا تطلب منا ذلك، حسب نفس المنظومة الديمقراطية المتفق عليها، طرح استفتاء عام على الشعب ليقول كلمته الفصل في الرحيل أو البقاء. وهذا ما قد لا تلجأ إليه السلطات التي بحوزتها السلاح أو النفوذ، بل تسعى جاهدة إلى قيادة حملة ترويض نفسي شعبي، وتطويع سياسي وديني في قبول الوصاية والنيابة، بل والمساهمة الاستخباراتية في خروج فئات هذا الشعب المروض للتعبير عشوائيا وتلقائيا عن فرحته في رفع غمته، والاستعداد الآني والمستقبلي لتحصيل حقوقه ومستحقاته. وكيف لا تنطلي عليه هذه الحيلة واللعبة السياسية وهو المقهور في داخله، والمأزوم في معيشته، والمغتصب في أحلامه وطموحاته، والمستعد آليا لمعارضة أي نظام حكومي قائم، حتى لو كان عمره لا يزيد عن أيام أو أسابيع، لأن نفسه الهشة، وحياته المهمشة والضائعة ترعرعت وتربت على سلوك العنف والعدوانية والصدام، وعدم الثقة في الآخر، والتخوين والمعاقبة اللفظية والسلوكية المتحفزة أو المتربصة، ولا يهمه أن المتحدث الجديد هو من الأوفياء الأتقياء المخلصين للوطن، أو من رموز الفلول من أتباع النظام البائد، أو المنتفعين الجدد من خيرات ومحاصيل استغفال الشعب المتعطش للتغيير والتجديد، حتى لو كانت وصفته الطبية معبأة بأدوية متجاوزة أو منتهية الصلاحية والنفعية. ولقد اعتبر كثير من المحللين أن هذا السلوك الاحتيالي الشاذ في إدارة الدولة والمجتمع هو من ثغرات ونواقص بناء منظومة الديمقراطية في ضرورة مشاركة الجميع في إقامتها، أخيارا وأشرارا، غير أن الواقع يشير إلى أن العيب يكمن في القائمين على الديمقراطية، ومنهم أساسا المواطنون المشاركون والغائبون والمغيبون، وليس في الديمقراطية كقيمة إنسانية نبيلة وتحصيل سلوكي إيجابي صالح لكل زمان ومكان. ولو كان الوعي بالديمقراطية منتشرا بشكله المطلق أو حتى النسبي، لما انطلت على أحد لعبة الحديث لمجرد خروج مئات الآلاف للمطالبة بتغيير الأوضاع المختلة القائمة حسب تعبيرهم ومطالبهم، ولكان الأجدر الاحتكام في كل مكان وظرف شديد، ولو للمرة الثانية أو الثالثة، لصناديق الاقتراع، بعيدا عن سلطة وإملاءات العسكر، التي ستكون الفيصل في التعبير عن إرادة الشعب الحقيقية ولو بنسبة 51 في المئة على الاقل من كتلة المشاركين في هذا الاقتراع، ولصار الحديث نابعا من حسابات عملية رقمية مضبوطة، ومشاركة شعبية فعلية مضمونة بمراقبة القضاة الشرفاء ونزاهة الانتخابات، وليس بفارق سلطة تقديرية شخصية أو فئوية مزاجية، غالبا ما تخفي وراءها حسابات كيدية قديمة، كما يجري الآن بين قيادات المؤسسة العسكرية والتيارات الليبرالية وجماعة الإخوان المسلمين بمصر. وأعتقد أن الاعتصامات القائمة بميدان مسجد رابعة العدوية، ومحيط مبنى ماسبيرو مقر الإذاعة والتلفزة، ومختلف محافظات مصر من طرف المؤيدين والمناصرين للرئيس المعزول، الذين تكاد أعدادهم توازي أو تفوق أعداد المعارضين بميدان التحرير، وقصر الاتحادية، وبميادين أخرى، والذين انتصر لهم الجيش وانحاز إلى مطالبهم بمباركة من مشيخة الأزهر وأقباط مصر، يؤكد بالملموس أن الحديث هو حديث نسبي، وأكاد أقول غير بريء، ولا يستند الى تفويض قانوني أو انتخابي أو شعبي، ويحتاج إلى جبل من المبررات والحجج والقرائن قبل إطلاقه هكذا، اللهم إلا إذا كان هناك ترتيب مسبق وغير معلن على مشروع إسقاط هذه الفئة وتنصيب الفئة الاخرى ممن له سلطة السلاح أو الأشكال الأخرى من النفوذ والهيمنة والاحتكار. وإن أبواب مصر اليوم مفتوحة على المجهول، وعلى كل الاحتمالات المطمئنة أو المرعبة التي صنعتها بيانات وقرارات الحديث من دون احتراز ومن دون حيطة أو حذر، ومن دون الأخذ في الحسبان مواقف وردود أفعال الأعداد الأخرى من فئات الشعب المتحدث باسمها طوعا أو كرها.