هل شعرنا المغربي في أزمة؟
إذا كان الجواب بنعم، فهل من العدل أن نحمل الشعراء الشباب، حسبما يرى البعض، مسؤولية ما آل إليه الشعر من وهن؟ وهل للوسائط والوسائل التعبيرية الجديدة، دور في ذلك؟ أليست القراءة، كاشتراط أولي لتداول الشعر، هي بنفسها تعيش وضعا حرجا في بلد، نسبة الأمية فيه مخجلة جدا؟
علينا أن نتفق، بادئ ذي بدء، على أن الشعر، ليس في المغرب فقط، وإنما في باقي أرجاء المعمورة، قد عرف في مستهل الألفية الثالثة، مزاحمات ومنافسات شديدة من طرف بعض الفنون، وبعض أشكال التعبير الأخرى في مجال الأدب. هذا الأمر كان من المفروض أن يغير من نظرتنا للشعر كأنطولوجيا متجددة ومتصيرة (تماما كالنهر الهيراقليطي)، ولوظيفته، وحدِّهِ، أخذا بالحسبان أن مفهومه ليس معطى ثابتا أو نهائيا.
وإني أتصور أن واقع حال الشعر المغربي، يرجح بين ضلعي مفارقة غريبة. ففي الوقت الذي يعرف المشهد الشعري حركة دؤوبة، اشتغالا وانشغالا، بالنص وخبرته، عند مجموعة من الشعراء المتمايزين من حيث الحساسية، نلاحظ بالموازاة مع ذلك، عزوف جمهور القراء عن الشعر قراءة (قراءة الدواوين)، وتذوقا سماعيا، من خلال حضور الأمسيات الشعرية المنظمة هنا وهناك، على قلتها وندرتها. فعلى مستوى الضلع الأول من المفارقة، أقصد الإنتاج الشعري، أقول ثمة، في الشعر المغربي الراهن، نداءاتٌ مقبلة من معابر ضيقة. ثمة رهانات هبت بها ريح الحداثة، ليس الشعر سوى أفقها الرحب. الشعر بما هو مقترحات وممكنات كثيرة، أي بما هو خزان ثر لكم هائل من التوالجات والاختيارات الجمالية. هذا الأمر أدى إلى بزوغ حساسيات شعرية، لا تذعن سوى للاختلاف والمغايرة. الشعر بهذا المعنى كثرةٌ لا تني تقوض المفهوم التقليدي له، ذاك الذي تهندم بهندام القصيدة الطللية، دون أدنى اعتبار للزمن. طبعا، ليس كل ما يروج في مشهدنا الشعري الراهن، ينتمي إلى الحداثة الشعرية، بما هي مجاوزة واختلاف ومغايرة. كثيرة هي النصوص التي لا تجاوز ما هو متاح أو متواضع عليه، فنيا، وتدّعي انتماءها للحداثة، لمجرد أنها وضعت نفسها في المهب، وأنى لها ذلك. فالحداثة موقف قبل أن تكون شكلا. حتى أن الشاعر الواحد منهم، تجده أسير تقليدانية مفضوحة، ويدعي مع ذلك، أنه يكتب من داخل مشروع حداثي، فقط لأنه كتب نصا، أو ديوانا يتبطن إشارات حداثية؛ والحق أنها مجرد ادعاء حداثوي ليس إلا.
أعرف بالبداهة والمتابعة والدراسة، أن الكثير مما يكتب في مشهدنا الشعري (إبداعا) الآن، ليس معنيا بهذا النداء، أو بالأحرى لا ينتمي إلى هذا الأفق، مهما ادعى من ادعاءات واهية، لا ماهية لها، ولا أفق لها حتى. لكنني أقصد، من خلال ملاحظتي الماهدة أعلاه، التجارب الشعرية الجادة، تلك التي تأسست على رؤية مبهورة من مشروع كتابي حداثي أصيل، مظهرا وروحا.
لست هنا بصدد محاكمة شعرنا المغربي الراهن، فالأمر يفوقني، ويبقى نسبيا مهما حاولت، لأنه في نهاية المطاف، هو بين يدي التاريخ الأدبي، لكنني بصدد تشخيص الوضع، الذي أصبح يشغل بال، ليس الجمهور والنقاد فقط، وإنما الشعراء أنفسهم. لذا أعيد السؤال مرة ثانية، بصيغة استنكارية هذه المرة: كيف هو حال الشعر المغربي اليوم؟ هل فعلا شعرنا في أزمة؟
كثيرة هي الأقاويل التي تتبنى هذا الطرح، ومبرّرُها في ذلك، هو انصراف جمهور الشعر عن القصيدة بشكل مثير للتساؤل، لصالح الرواية التي أصبحت في نظر البعض ديوان العرب الجديد؛ إذ لم يعد القراء يُقبلون على شراء الدواوين الشعرية، بل إن دور النشر بدورها أصبحت تتبرم، بشكل مباشر ووقح أحيانا، من طبع المجاميع الشعرية. وهذا لعمري جزء مهم من الأزمة، وتكريس فعلي لها.
فلئن كان التدافع الحاصل في المشهد الشعري المغربي، على مستوى تجريب أشكال واختيارات جمالية، فعلا إيجابيا، احتكاما إلى مبدأ التجريب، فإن القصيدة المغربية ككل، تواجه مجموعة من الصعوبات والمحن، من جهة التداول والتسويق؛ وهذا مأزق وفتق وعطب، أعتبره شخصيا، جرحا غائرا، ووضعا غير سليم، ينبغي ملامسته والوقوف عنده، بكثير من المسؤولية من طرف الجهات والمؤسسات الوطنية الراعية للشأن الثقافي في البلاد.
نعم، لا شك في أن أزمة الشعر المغربي الراهن، هي من أزمة الشعر العالمي؛ مثلما جاء في إحصاء، في مقالة، للمحرر الأدبي لمجلة «النيوزويك» (مارس/آذار 2009) يؤكد على أن عدد قراء الشعر انخفض إلى النصف خلال الستة عشر عاما الأخيرة (يمكن العودة إلى المجلة العربية، أكتوبر/تشرين الأول 2014، عدد 455)، لكن أن يتحول هذا الطرح إلى مسلمات ويقينيات (أي إلى حق أريد به باطل)، تتبناه للأسف – مهما كانت نسبة مصداقيته- مجموعة من المؤسسات الثقافية الوطنية، وكذا مؤسسات المجتمع المدني، التي كان من المفروض فيها أن تكون أول من ينافح عن شعرنا المغربي، ليس أمرا مقبولا.
لقد أضحى الشعراء، في المغرب، يسجلون، بامتعاض كبير، تبرم دور النشر والمؤسسات الثقافية الكبيرة، من المجاميع الشعرية التي تُقدم إليها من طرف الشعراء، بقصد أن تُجيز وزارة الثقافة نشرها، ضمن برنامج دعم الكتاب الذي تبنته هذه الأخيرة منذ سنوات، بدعوى أن الكتب النقدية والأعمال السردية (روايات مجاميع قصصية مسرحيات قصص الأطفال…) لها حظ كبير من القراءة في سوق التداول، على عكس الشعر الذي لم يعد يحظى بالمكانة نفسها التي كانت له في السابق.
والحق أنني شخصيا عاينت هذا الأمر، عندما أردت أن أوزع ديواني الأول بطريقة شخصية، إذ كنت كلما طرقت باب بعض الأكشاك أو بعض المكتبات من أجل عرض بعض النسخ من ديواني الشعري، إلا وأقتنع بأن الشعر أصبح مجرد بضاعة كاسدة في سوق النشر، لكن لنتساءل بموضوعية، ألا يمكن القول بأن هذا الانطباع الرائج حول قيمة الشعر ودوره وسط جمهور القراء، مجرد وهم توهمه بعض من يقرر في مصير الشعر، واقتنعنا به نحن بدورنا؟ أليس الشعر موجودا في الرواية والقصة والمسرحية والصورة والفيلم، ومن ثم فإن حاجتنا إليه كحاجتنا للخبز كما قال ذات مرة الرفيق تروتسكي؟
المحصلة في النهاية أنه على الرغم من هذا الكساد الحاصل على مستوى تسويق وتداول الشعر، فإن بعض الشعراء المغاربة، ما فتئوا يجربون أشكالا تعبيرية مائزة وماتعة أحيانا، ومعقدة ومنفرة أحيانا أخرى؛ يحدث هذا في إطار رؤية جديدة، نُعتتْ بالحساسية الشعرية الجديدة. هي مفارقة حقيقية؛ أزمة على مستوى التداول، واشتغال وتجريب على المستوى الفني والجمالي.
٭ شاعر مغربي
محمد الديهاجي