كل شيء «كان» قد تغيّر في 2027، وهي السنة التي راح يفتح فيها الراوي المتذكَّر أبواب الماضي. كان تغيّر العالم قد بدأ قبل ذلك بسنوات، منذ أن صار الروبوت «بهلول» لا يكتفي بأداء وظائف العمل المنزلي، بل صار يطمح إلى وجود شخصي واجتماعي. كانت مهاراته تتطوّر على مدى السنوات التي سبقت بدء استخدامه، أو بدء اختراعه في الأيام الأخيرة من القرن العشرين. وهو منذ ذلك الحين كان يتطوّر عبر برامج تضاف إلى طاقته من خارج وجوده المادي الآلي.
أما الراوي، مالك بهلول أو موظّفه، فهو من مجموعة عاملين، بل مخترعين، في مجال صناعة البرامج الكومبيوترية. وهو، انسجاما مع كونه في هذه البيئة الصانعة لما سيكون عليه مستقبل العالم، يبدأ روايته بالعثور على جهاز كومبيوتر مرميّ على الطريق. لم يتأخّر في التقاط الجهاز وحمله من ثمّ إلى بيته، وبعد أيام قليلة سيبدأ بالتعرّف على الرجل صاحب الكومبيوتر الذي اسمه نادر الغريب، ليكون هذا الأخير، شيئا فشيئا، بطل الرواية، حالّا محل الراوي الذي يظل حاضرا على أيّ حال، خصوصا لجـــهة عشــــقه لنساء ثلاث لم يصبه منهنّ إلا المرارات والترك. كما أن حضور اليمن، وعدن على وجه الخصوص، توسع الحيّز الذي يحتله الراوي من الرواية، ليس فقط لأنها المستقر النفسي لعشقه الثاني، إيزابيل التي منعت من دخول اليمن، لكن أيضا لما عبرت فيه اليمن من حروب أهليه بدءأ من مطلع السبعينيات وصولا إلى حربها الراهنة. هذا وكنا قرأنا للكاتب صفحات عن وجوه أخرى من مأساة اليمن في روايته «ابنة سوسلوف».
لكن اليمن، وعدن على الخصوص، ليس إلا واحدا من أماكن العالم الكثيرة التي تدور فيها أحداث الرواية واستيهامات أبطالها. باريس هي المكان الآخر المقابل لليمن، وفي ما يتعلقّ بشخصيات أخرى، مثل العالِم ديمتري وطالبة الدكتوراه الفذة والجميلة مايا، ستكون روسيا هي المكان الثالث، أو أمريكا اللاتينية، تلك التي كانت وجهة إيزابيل. وفي ما يتصل بنادر الغريب، بطل الرواية المترفّع، القليل الحضور فيها على الرغم من أن الرواية اتخذت عنوانها مما كان يلقّب به «حفيد سندباد»، فهو المتنقّل على الدوام بين البلدان والغائب على الدوام تبعا لذلك. فهو لا يحضر إلا في السطور التي تصف فرادته وتجوله بين أمكنته المخصوصة الأثيرة من بلدان العالم أجمع. بطل مترفّع إذن، وقد أسبغ عليه تاريخ شخصي وعائلي ما يناسب هذا الترفع والخفاء. هو من عائلة مالكين كبار، وقد حصّل ثقافة فنّية متنوعة وواسعة، وإلى ذلك، كما ينبغي لرجل فاتن، ينوء بسرّ تصطبغ به حياته. هكذا نقرأ انكساره بسبب نكران أبيه له. وهذا من ناحية اخرى حال ديمتري ومايا، غير الموصولة صلة الأبوّة والبنوّة بينهما هما أيضا.
البيئة التي تعيش فيها شخصيات الرواية هي تلك التي يُصنع فيها تقدّم العالم واستشراف ما ينبغي أن يكون عليه مستقبله. إنهم عباقرة العالم لكنهم، مع ذلك، صانعو خرابه. ذلك المزيج المتشكل من اللهاث لدفع العالم قدما والأسف على رحيل ماضيه هو ما يشطر تلك الشخصيات.
وإذ ينشطر نادر الغريب بين صفاته التي منها عبقريته في مجال صناعة ذلك العلْم، إضافة إلى الفتنة والثراء والمزاج الأكثر رفاهية الذي لم يُعط إلا لنخبة العالم، نجد الراوي منقسما بين تخلّف عالمه الأصلي وتهوّر العالم الأول في سعيه إلى ما ليس له حدود، بل قد يخطر لقارئ الرواية أنها ساعية إلى المزج بين عالمين يصعب جمعهما في مساق روائي واحد، خصوصا أن كلا منهما يظهر في تناوله قائما بموضوعه الخاص، بل قد يخطر للمتنقّل بين صفحات الرواية وفصولها أنه يقرأ عن عوالم كثيرة حظيت كل منها بحصّتها من الرواية، ودائما جرى الاشتغال بمعرفة واسعة على كل ما تحطّ الرواية رحالها فيه.
لا يتعلّق الأمر بالمعرفة التفصــــيلية للروبوتات ولغتها، كما للتواريخ المأساوية المتتالية على حياة اليمنـــيين، بل نقرأ معرفة واسعة بالشعر والأدب والتنقل الروائي بين الأزمنة الواسعة المروحة والموقعة كاتبها بإدخال الحاضر بالماضي وافتراض سنة 2027 هي الزمن الراهن الذي انقضى لتوّه.
هو كتاب متعدّد وكثير إن شئنا أن نستخدم لغة الشعر في تطبيقها على الرواية وهو، لذلك، كان في حاجة إلى نهايات كثيرة وليس إلى نهاية واحدة كتلك التي دارت حول نادر الغريب كاشفة عن شخصية جديدة هي شخصية فؤاد، ابن نادر، الذي كان على الراوي أن يتبعه، أو أن يتبع مصيره، هكذا في صفحات الرواية القليلة الأخيرة.
عوالم كثيرة تتداخل أو يجاور بعضها بعضا، أو ينأى أحدها عن الآخر، وهذا ما يجعل الرواية متوزّعة في سياقات عدّة، حتى أننا نجهد أحيانا في تذكّر، ونحن في النصف الثاني من الكتاب، شيئا كنا قرأناه في نصفه الأوّل.
حفيد سندباد» رواية حبيب عبد الرب سروري صدرت عن دار الساقي في 222 صفحة، 2016.
٭ روائي لبناني
حسن داوود