العالم يعيش لحظةً فارقة وشديدة الجنون.. في يقيني أن انتخاب دونالد ترامب في أمريكا أتى ليثبت أن أزمة الرأسمالية والعالم في ظلها بلغت مرحلةً حرجةً، فالرأسمالية كنظامٍ وعلى الرغم من تنظيراتٍ عديدة حول إمكانية تحجيم شطحاتها وتنظيم دوراتها، والزعم بأن الكساد والأزمات صارت شيئاً من الماضي، كل ذلك ثبت أنه محض عبث وهراء.
ما أضيف إلى ذلك منذ الثلث الأخير تقريباً من القرن العشرين وحتى يومنا هذا مع تدشين تلك الصيغة الأشرس للانفلات الرأسمالي من كل قيود ومحاولة التحلل المختلس من أي التزامٍ اجتماعي، النيوليبرالية، هو اكتشاف أثرها المدمر على كوكب الأرض وتهديدها لإمكانية استمرار الحياة عليه.
بيد أن سدنة المعبد وكرادلة الرأسمالية لن يعترفوا بذلك بطبيعة الحال، فالنظام صالح وعظيم والمشكلة تكمن في جشع الناس وانفلات المضاربات الخ، وفي غيبة قوى بديلة منظمة وهو ناتجٌ إلى حد كبير عن فقدان الأمل في مستقبلٍ أفضل ونموذجٍ آخر يصلح بديلاً وشبه تسليم أو استسلامٍ صامت لواقع حضور الرأسمالية، كما لو كانت قدراً لا فرار منه. في ظل ذلك الغياب وتزييف الوعي بإلقاء اللائمة على الضحايا وأمام الأزمات الملحة، لم يجد الناس في إحباطهم وارتباكهم في أحيانٍ كثيرة سوى ممثلين عن اليمين المتطرف يذكون الكراهية تجاه ذلك الغريب وينفثون في لهيب الخوف من الآخر، مهاجراً كان أم تابعاً لديانةٍ مختلفة، أو حتى على خلافٍ فكري كما هي الحال في مصر.
ويبدو أنه كما أن الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية قد تكون مسرح الثورة وضرب المنظومة، فإنه يصح أيضاً أن تكون شاهداً أو نموذجاً على نتائج عدم نجاح الثورات في إزاحة النظام القديم، على تجسد العبث والهراء ولما كان كل شيءٍ نسبيا فإن ذلك يتم بصورةٍ أكثر رثاثة. ولأي متشككٍ في ذلك نسوق مصر مثالاً.
بعد فترةٍ طويلة من التمهيد الإعلامي، أقدم الرئيس السيسي على ما لم يجرؤ عليه رئيسٌ قبله منذ عبد الناصر، مع مراعاة أنهم جميعاً يشتركون في احتقارهم للبسطاء ومجهودهم الحثيث في التملص من أي نوعٍ من الدعم الاجتماعي أو الخدمات العامة. كأن الرجل يود أن يثبت قوته وشجاعته. والشاهد أنه منذ أن تولى الرئاسة أقدم على مشروعاتٍ ثبت بالتجربة العملية عدم جدواها، وعلى رأسها التفريعة الجديدة لقناة السويس، كما كرس سيطرة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد. الجنيه المصري في سقطة حرة. الكل مرتبك متخبط والناس لم يعودوا يفهمون شيئاً، وكل ما يعرفونه يقيناً هو ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتضاؤل قدراتهم الشرائية وازدياد عجزهم عن الوفاء بمسؤولياتهم، وسيطرة الخوف من الآتي. إنه المعنى الحقيقي للطحن.
وكأن كل ذلك لا يكفي لتتفجر فضيحة مضحكة مزرية، حيث نشر أستاذٌ جامعي داعمٌ للرئيس السيسي على حسابه على الفيسبوك أن صحافياً في جريدةٍ كبيرة في مصر هو إبراهيم الجارحي، يدير «شبكةً» من الموالين للنظام على مواقع التواصل الاجتماعي تدافع عن سياساته وتروج لها بتكليفٍ من أجهزة الأمن، مع مراعاة ما قد تستدعيه كلمة شبكة للأذهان والحقيقة أن الغرض مشابه.
اللطيف في الموضوع والمدهش أيضاً أن ذلك الصحافي لم يثر (أو يتظاهر بذلك) ولم ينف، بل على العكس أقر بذل، خير اللهم اجعله خيراً في الأزمنة الخوالي وُجد شيء اسمه ماء الوجه والخزي الخ، وهناك من كانوا يتخفون أو ينتحرون إذا أريق ذلك الماء، ليس في دولة السيسي.
لا شك في أن اختلاف الظالمين رحمة، وفي حالة النظام المصري فإن اختلاف المخبرين والمأجورين والموالين للنظام رحمةٌ هو الآخر، وفضحٌ للبعض ممن يدعي الاحترام والاستقامة، ناهيك من كونه تأكيداً على تفاهة هذا النظام. كثيرٌ من هذه الأسماء معروفٌ ويتم تداول ما يكتبونه ويدونونه على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الموالين، كما لو كانت آراءً حرة من أشخاصٍ ذوي مكانةٍ مرموقة ووجاهة في المجتمع، وإذا بنا نكتشف أنهم، ومن مختلف الأعمار، يتلقون توجيهاتٍ وإملاءاتٍ من «إمام» المخبرين في المجموعة، فيدافعون عن مواقف الحكومة المتخبطة المدمرة ويغرسون أنيابهم في معارضيها، وكما أن هناك طليعة ثورية (أو على الأقل يفترض أن يكون) فهناك طليعة للمخبرين و»الدولجية».
لا يستقيم بقاءٌ لأي نظامٍ بالعنف وحده، وإنما يلزم وجود مسوغاتٍ تحقق قدراً من القبول والتسليم، وفي النهاية يضحى بقاؤه نتيجةً لحصيلة كل ذلك، بيد أنه في حالة النظام المصري فإننا لا نجد شيئاً سوى العنف، فكما يتبين فإن محاولاته تغطية نفسه بغطاء دعمٍ انتهت بفضائح نتيجة صراعات المخبرين تلك. فشلٌ وانحدارٌ في كل شيء، وبعد أن كنا نتكلم ونتناقش في صراعات أجهزة ومراكز قوة، انحط بنا الحال حتى بتنا نكتب عن صراعات مخبرين وقعوا في بعضهم بعضا.
ما المستفاد من ذلك؟ أولاً هذا تأكيدٌ جلي على إفلاس النظام وداعميه. ثانياً أن النفاق والعمالة للنظام ليسا بالضرورة نتيجة العوز، فبعض هؤلاء أثرياء، وما النفاق والدناءة والعمالة في حالتهم سوى أسلوب ومنهج حياة وشرط وجودي وهدف، وأنهم في التزامهم بمد عمر النظام المنحاز لطبقتهم لن يتوانوا عن أي دناءة، ويا له من التزام.
لكل ما سبق فإنني أكرر ما قلته من قبل: هذا النظام ديكتاتورية رثة ومهترئة للغاية، يفتقر إلى أي رؤية، ولقد انضاف تعويم الجنيه لسوابق عديدة ليؤكد ذلك بما تبين من عدم استعداد النظام لمواجهة تبعاته وأن كل التصريحات لم تكن سوى كلامٍ. نمطٌ مكرر، كلام في كلام يبني أوهاماً تعوض عن الفعل.
بيد أنه لا يريد أن يسقط بكرامة، ويأبى أن يرحل من دون أن يكون قد استنزف أي رصيد من الاحترام. حتى التوجيه المعنوي، ذلك المسمى المنمق لغسيل الأدمغة فشلوا فيه ومخبروهم لم يعودوا يعرفون متى وأين يتكلمون ومتى يصمتون ليدشنوا بذلك مرحلةً من المعارك التافهة.
سوف يمضي النظام في طريقه حتى النهاية، مدمراً البلد والناس وساحقاً معارضيه بقدمه الثقيلة الخرقاء، من دون كرامة، يا له من بؤس.
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
تحية للكاتب المتميز
سوف يمضي النظام في طريقه حتى النهاية، مدمراً البلد والناس وساحقاً معارضيه بقدمه الثقيلة الخرقاء، من دون كرامة، يا له من بؤس .
سطر لخص كل الحال