بين العلاقة الشخصية والاستبداد

حجم الخط
0

استوقفتنا إذن، في عجالة الأسبوع الماضي، ظاهرة «موتى المرافقة» بما لها من انتشار في مدى العصور ومن توزّعٍ بين القارّات. شدّدنا على الظاهرة الخام: على ما تبرزه القبور الجماعية «غير المتناظرة» من وجود نزلاء فيها قتلوا أو انتحروا ليكونوا في معيّة السيّد الذي هو صاحب القبر في الحياة الأخرى.
على أن الأهمّ، لجهة الدلالة، يبقى المعيار العامّ الذي يحكم اختيار هؤلاء «المرافقين» أنفسهم (إذ يتطوّع كثير منهم للانتحار عند موت السيّد) أو اختيار الغير إيّاهم. لا ريب أن الرقيق طليعة المرشّحين ومع هؤلاء (أو بينهم) النساء من زوجات ومحظيّات. ويلاحظ، في حالة الملوك وفي غيرها، أن أقرب الخدم والأتباع إلى قلب الراحل وجسده هم طليعة المرشحين لـ«مرافقته» في مثواه الأخير. ولا يمنع هذا أن بعض سيّئي السيرة والسلوك من العبيد قد يستفاد من موت سيّدهم للخلاص منهم. ولا يمنع أيضاً أن أطفالاً قد يقتلون إذا مات معيلهم للافتقار إلى من يخلفه في العناية بهم. ولا يمنع أن هذا السبب عينه، أي خسارة المعيل، يفسّر بعضاً من حالات إقدام «الراشدين» على اللحاق طوعاً (أي انتحاراً) بفقيدهم. وبين هؤلاء عبيدٌ هم مثال الوفاء والولاء، لا يتبيّن لهم إمكان حياة تستمرّ في غير ظلّ السيّد الراحل. ولا يمنع أخيراً أن من تضعهم أقدارهم في طريق الموكب الجنائزي قد يقتلون بلا سؤال ولا جواب وأن العمّال ممن يعرفون حكماً مداخل الضريح ومخابئه قد يقتلون خلف بابه أو يدفنون أحياءً فيه. ولكن هذا كلّه لا يفسّر الظاهرة بأسرها ولا معظمها… وإنما يبقى تفسيرها الفعليّ في موضعٍ آخر.
يستبعد الانثروبولوجي الفرنسي آلان تستار كلّ تفسير دينيّ لتقليد «موتى المرافقة» هذا. فهؤلاء الموتى ليسوا قرابين ولا أضاحي إذ لا يراد بموتهم إرضاء قوّة من قوى الغيب، أي نيل حظوةٍ أو غفرانٍ منها للفقيد العزيز. وقد كان من الأديان الكبرى أنها كافحت هذا التقليد وسَعَت في إخماده حيث وجدته. وإنما كان يراد منه الشهادة لمكانة الفقيد وللحرص على رضاه، بالتالي، ويراد حفظ مزايا له في حياته الأخرى كانت له في حياته الأولى. الجاه إذن والحظوة المستمرّة، بعد الموت، بمُتَع الحياة المعتادة: متعة البطن ومتعة الفَرْج وما جرى هذا المجرى، بطبيعة الحال. ولكن أيضاً مُتَعُ الزينة والثروة الظاهرة ومتع الفروسية والقتال وكثرة الحرّاس وما جرى هذا المجرى أيضاً في حالة الملوك والقادة، إلخ. لا شيء هنا يقدّم لإله ما إذن. وإنما هو الراحل يحتفظ بما عنده.
ذاك لا يمنع شعوراً يجافي دعوى تستار غياب الدين عن ممارسة «المرافقة». نقتنع بحجة تستار الآيلة إلى نفي صفة «القربان» عن قتل المرافقين او انتحارهم. ولكن لا نغفل عن افتراض الراحلين حياةً أخرى تلي الموت… وهو افتراض يقع في جوهر الدين (ويلاحظ قارئ تستار كم هو فائض عن حدود ديانات التوحيد… بخلاف ما يظنّ العوام – على الأقل – من أتباع هذه الديانات) وهو – أي هذا الافتراض – شرط لا يتماسك دونه منطق «المرافقة».
على أن المستوى الأعمق الذي يسع جهد التفسير أن يبلغه إنما يتمثّل في ما يسمّيه تستار «العلاقات الشخصية». هذا النوع من العلاقات هو المهيمن بين ما يمكن استطلاعه من روابط تجمع الميت «الرئيس» بـ»مرافقيه». وهو ما يفسّر كون الملك لا يتبعه إلى القبر وزراؤه أو كبار موظّفي دولته. وإنما تتبعه أقرب محظيّاته وطبّاخه وسائسه وندماؤه وآخرون ممّن خالطوه، على أنحاء مختلفة، في جسده وفي معيشه الخاص فكانوا مقرّبين إليه أعزّاء عنده بما هو شخصٌ – ملك لا بما هو ملكٌ وحسب.
في هذه الصفة الشخصية لعلاقة الميت بمرافقيه في الموت يكمن سرّ «المرافقة» بحسب تستار. وهو سرّ يجوز تلخيصه بكلمتين: التبعية والولاء. ففي ممارسة «المرافقة» من أوّلها إلى آخرها وفي ترتيب المدفن المهيّأ لضمّ رفات الفقيد الرئيس ومرافقيه، على التخصيص، تظهر التبعية، تبعيّة العبيد وتبعية الأحرار من «المرافقين»، ممثّلةً في «الإخراج» المادّي لفضاء القبر ومندرجاته. والتبعيّة من جهة التابع إنّما هي التجلّي لسلطة المتبوع… يبقى مع ذلك أن ما يسمّيه تستار «الولاء» هو، في نظره، البعد الأحرى بالتأمّل في هذه العلاقة الشخصيّة الماثلة وراء «المرافقة». وفي الكلمة الفرنسية الدالّة على الولاء (فيدليتي) وفي أصلها اللاتيني (فيدس) تَعَدّدُ أبعادٍ يظهر في مكوّنات الدلالة: من معنى الإيمان إلى معنى الإخلاص إلى معنى الأمانة إلى معنى الوفاء، إلى معنى الملازمة، إلخ. وهو ما يصل به إلى أقصاه اختيار البقاء مع الولي في الحياة وفي ما بعدها واختيار مصاحبته في موته وملازمته في قبره بالتالي.
يلاحظ تستار أن تقليد «المرافقة» هذا كان قائماً في مجتمعاتٍ اعتمدت صيغة الدولة وفي أخرى بقيت مقتصرة على جماعة النَسَب. ولكنّه يلاحظ أيضاً أن الدول المركّبة أو المتقدّمة في التبلّر، وهي التي توصّلت إلى اعتماد بنية بيرقراطية قريبة إلى هذا الحدّ أو ذاك من النموذج الفيبري، بما فيها الإمبراطوريات الكبرى، قد نحت نحو استبعاد «المرافقة» وسعى بعضها إلى اجتراح بدائل لها. ذاك ما يتبدّى، مثلاً، في الحالة الصينية. فالإمبراطور الأول «شين» (وهو الذي منح الصين اسمها) أنشأ لنفسه ضريحاً تبلغ مساحته 16 كلم2 (وما يزال استكشافه جارياً) ولم تصحبه إليه حاشية من المرافقين المقتولين بل وُضع فيه جيش وافر من الجنود الخزفيين حجم كلّ منهم مساوٍ لحجم الجندي الطبيعي. ذاك إذن «بديل» رمزيّ ضخم للمرافقة البشرية.
يبقى أن تقليد المرافقة، بأضخم صوره وأغناها دلالةً، قد ميّز الممالك المطلقة أي دول الاستبداد أو المونوقراطيات التي يحتكر فيها فردٌ واحد جملة السلطة. وفي عرف تستار أن ما يمثّله موتى المرافقة من ولاء يتجاوز جدار الموت إنما هو التجسيد الأمثل للاستبداد أو للسلطة المطلقة. وهو أيضاً أصل الدولة وشرطها في الصيغة التي ظهرت لها أوّلاً وهي صيغة الاستبداد. ففي هذه الصيغة يكون معنى الدولة استعداد الرعايا للموت في سبيل المتبوع وللحاق به إلى القبر. يفترض فيهم استبطان هذا الاستعداد وسدّ السبل امام أيّ شكّ فيه ويفترض صاحب السلطان من جهته حصول الاستعداد المذكور ويعوّل على تفعيله، لا في حياته المحدودة وحسب بل في ما يتعدّى هذه الحياة أيضاً.
يتبع هذا مأخذ نافذ على الأنثروبولوجيا الاجتماعية يعتمده تستار وهو طغيان علاقة القرابة على تناولها بنى المجتمعات. هذا بينما تنطوي الحياة الاجتماعية على أنواع غير قرابية من العلاقات بينها تلك «العلاقة الشخصية» التي يجدها تستار تحت ممارسة «المرافقة» قبل أن يباشر البحث عنها في «أصل الدولة». ولعلّنا نعود إلى نظريّة أصل الدولة هذه، وهي موضوع الجزء الثاني من كتاب تستار. وإنما قصرنا همّنا ههنا على وصف ما يفترضه المستبدّون، بحسب تستار، معنى أقصى لسلطانهم. وهو معنى بذلت البشرية ما لا يبذل للخروج عليه وللحدّ منه، أي لإخراج سلطة الدولة من دائرة «العلاقة الشخصية» بصاحب السلطة إلى دوائر أخرى ذات موضوعات غير شخصية من نُظُم الحياة الاجتماعية. ولكن المستبدّين ما يزالون كثراً هنا وهناك في أرجاء الكوكب، يستغني بعضهم عن الأقنعة ويلبس بعضٌ آخر أقنعة شتّى. وما يزال بعضهم بين ظهرانينا وما يزال كثير منّا يلبّون دعوتهم فيتبعونهم إلى قبورهم أو يسبقونهم إليها.

بين العلاقة الشخصية والاستبداد

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية