الشر هنا وهناك

في حوار مع زميلة روائية، منذ أيام، تحدثنا كثيرا عن مسألة الخيال والواقع، ولغة الكتابة والإيحاءات، وكثير من الفقرات المزمنة التي تستخدم في كتابة الرواية، وما يتبعها من فخر أو خجل، من مسرة أو أذى، ومن ارتفاع بالمعنويات إلى درجة عالية، أو الهبوط بها إلى أدنى مستوى.
كانت الزميلة قد أدرجت في نصها الأخير الذي استوحته من سيرة مؤلمة حقيقية، اسم بطل عاش تلك القصة، اسم عائلته، وبالطبع لم تكتب القصة كما حدثت، لكنها زركشتها بخيال الروائيين المجيدين، وأنتجت منها النص الذي سيكون جميلا جدا، وفي الوقت نفسه، صادما جدا للكثيرين الذين ربما لا يعرفون الكثير عن الأسى، ولم يعيشوه قط. كان السؤال: هل سيتعرض النص المكتوب بهذه الطريقة، إلى حملة تحيله للنص الواقعي، وتدين كتابته؟ هل سيلاحق الأبطال أو الضحايا إن كان ثمة ضحايا، استلفوا من الواقع أيضا، وظلوا ضحايا داخل النص، ويطالبون بحقوق ما، نتيجة كتابتهم؟
المسألة في رأيي لا تبدو مؤرقة أبدا، والكاتب الجيد كما أكرر دائما، لا يستوحي شجرة النبق ويكتبها شجرة النبق داخل نصوصه، ولا يدخل المشرحة، ويشاهد جثثا محشورة هنا وهناك، ويكتب شاهدت جثثا، مثلا، إنما يكتب ظلال شجرة النبق، ويصف الموت الذي شاهده، من دون أن يذكر وجوها يابسة، وعيونا مطفأة، هكذا. وإن أعجبته فتاة الجيران التي ترتدي أثوابا بنفسجية، وتضع على شعرها وردة حمراء، سيكتبها قطعا، سيكتبها بتفاصيلها كلها، لكن الثياب قد تغدو وردية، والوردة على الشعر، صفراء أو بيضاء، والخطوات التي تذهب بها إلى أي مكان، سيتغير وقعها قليلا.
هنا كان الكاتب واقعيا جدا في استلافه تفاصيل الواقع، وفي الوقت نفسه، خياليا جدا في ابتكاره وقائع مماثلة، لن تثير شبهة أحد، ولن تفتح شهية الشر في أي مكان، ليلاحق الكتابة، وباستثناء السيرة الذاتية، التي يكتبها الناس عادة، وهم موقنون بأنهم يكتبون نارا، ويستعدون لنتائجها، تظل الكتابة الجيدة، هكذا.. واقعا مستلفا، وخيالا يزين الاستلاف، ويطمس شيئا من ملامحه، لكن لا يزيلها تماما.
إذن نص الصديقة الكاتبة، سيظل نصا موحيا، ربما يحبه عشاق الواقع الصرف، وعشاق الخيال الصرف، ولن يلفت نظر من استلف ملامحهم إلا إن كانت ثمة نية مبيتة من البعض، لغربلة النصوص والبحث عن واقعيتها، والمطالبة بحقوق ليست من حق أحد، أو إحراج الكاتب على الأقل، ودفعه للتفكير مئة مرة قبل أن يكتب حرفا جديدا.
مطاردة الكتاب، لكتابة الشخصيات بهذه الطريقة، تنطبق أيضا على الأمكنة، من مدن وقرى، وتنطبق على الشوارع إن كانت واسعة ضاجة أو أزقة معتمة، وتنطبق على المهن، فكل شيء يكتب، يمكن لمن يتبعون قواعد الشر أن يحولوه إلى قضايا وملاحقات، وإنهاك للكاتب.
أذكر أنني حين التقيت الطيب صالح لأول مرة، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، في قريتنا شمال السودان، وكان قد جاء لعزاء والده، وكنت طفلا صغيرا، منبهرا بالأداء الإنساني النادر للراحل الطيب، وأجلس لصيقا به في مجلس العزاء، أن قدم رجل مسن من سكان قرية مجاورة. كان مسنا بالفعل، طويلا ونحيفا، وله سنان وحيدان على فكيه، ولم يكن قد قدم للعزاء كما يبدو، لكن مدفوعا من بعض أقاربه الذين جعلوا منه قسرا، شخصية من شخصيات الطيب، وأرسلوه ليطالب بحقوقه المادية.
لم يكن الرجل يقرأ أو يكتب بالطبع، ولا يعرف أصلا أن هناك شيئا اسمه القصة أو الرواية، ونطق بصوت عال، أكبر من طاقة العمر جملة يبدو أنه لقن بها وحفظها: قال: أعطني حقي من كتابتي في روايتك.
كان ذلك شيئا مسليا، والطيب لم يكذبه ولم يرده خائبا، وهكذا كانت ثمة شخصية غير موجودة في أي نص من نصوصه، قد أوجدت نفسها بعنف ونالت حقا ماديا أيضا. هنا ثمة شر نسجت خيوطه، وتمت ملاحقة الكاتب بلا معنى، وإن كانت المسألة أقرب إلى التسلية، منها إلى انتزاع شيء من أحد.
الشر، ليس صفة موحدة في الناس كلهم، ولكن ثمة من يجعل من نفسه شريرا، ملغيا صفات حميدة كثيرة، وهذا هو الصنف الذي يبحث عن الصغائر، ويحولها إلى كبائر، وإن سقط كاتب أو حتى شخص عادي في حفرة من حفره، لن يخرج بمجرد خدوش فقط.
في أحدى المرات استهوتني شخصية من تلك الشخصيات المستعدة للبطش، وبلا أي هدف يذكر. كانت ثمة امرأة أحضرت إلى غرفة الولادة، في المستشفى الذي كنت أعمل فيه، وتحولت ولادتها المرتقبة إلى أكثر الولادات تعثرا في ذلك اليوم، واضطر الطبيب الموجود أن يدخلها غرفة العمليات، لإنقاذها وإنقاذ الطفل، لكن المرأة فقدت للأسف، وكان فقدا مؤثرا، وقدريا ولا دخل لأحد فيه. لقد استلم أهل المرأة مأساتهم، وطفلهم الذي خرج حيا، وذهبوا مؤمنين بالقضاء، لكن أحد الأقرباء لم يذهب، ظل مرابطا في حياة الطبيب الذي أجرى العملية، مرابطا في ممرات المستشفى في أي وقت، في مواقف سيارات الأجرة والباصات التي يمكن أن يستقلها الطبيب عائدا إلى بيته، أمام البيت أيضا، في سوق الخضار، في أي مكان يمكن الوجود فيه لكائن حي، ودائما ثمة سؤال في حلقه، يطرحه على الطبيب: لماذا ماتت؟
والطبيب يرد، للمرة الألف: قضاء وقدرا.
يتكرر السؤال وتتكرر الإجابة. حتى ترك الطبيب البلدة، وذهب لبلدة أخرى.
في أحد الأيام، أمسكت بكتف الرجل الذي كان قصيرا وضئيلا، وما زال يأتي على أمل أن يظهر غريمه، قلت له: ما الهدف من كل هذا؟ رد بأنه من عشاق الشر، ويريد أن يدمر غريمه.
قلت له: ماذا ستفعل إن كتبك أحدهم في قصة؟ قال: أدمره أيضا.
إذن ليست مسألة شخصية كتبت، أو شخصية أعيد تشكيلها، ولا مسألة زقاق ذكر اسمه عرضا في نص وظهر من جوفه من يطالب بحق ما، إنها نزعة الشر الموجودة هنا وهناك، وفي أي مكان وأي شيء حتى الطعام حين يغدو شريرا أحيانا، ويميت.

٭ كاتب سوداني

الشر هنا وهناك

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية