القدس من حسام عاصي: مهرجان القدس السينمائي، الذي عقد في سينماتيك، وهو بناء حديث من اربعين طابقا مبني على تلة تطل على جدران القدس القديمة، هو المهرجان السينمائي الأهم في اسرائيل.
في الثلاثين عاما الماضية، قام المهرجان بعرض الاف الافلام الاسرائيلية، التي نجح بعضها بالفوز بجوائز كبيرة حول العالم، بما فيها الأكثر هيبة ومرغوبية (الاوسكار). هذا العام، مع ذلك، كان نجوم المهرجان مخرجين قادمين من اكثر البلدان عداء لاسرائيل: الايراني محسن مخملباف واللبناني زياد دويري. قام المخرجان بعرض فيلميهما، ‘البستاني’ و’الهجوم’، واللذين صورا في اسرائيل نفسها.
المدير التنفيذي للمهرجان، اليشيا ويستون، تألقت بالفخر وهي تخبرني أن مخملباف سيحضر المهرجان كضيف شرف. لكنها لم تستطع اخفاء خيبة املها وحزنها من غياب دويري. ‘لقد أردنا فعلا ان يكون بيننا هنا’. ويستون، التي كانت تدير مختبر افلام التحقيقات في مهرجان سندانس قبل ان تقبل ادارة المهرجان الاسرائيلي قبل عامين ماضيين، كان دورها اساسيا في انجاز مشروع دويري، من خلال تأمين مصادر التمويل له.
متحدثا الى دويري في لوس انجليس قبل ان اغادر الى القدس، اخبرني انه راغب جدا بالقدوم الى المهرجان لينضم الى طاقمه الانتاجي الفلسطيني والاسرائيلي المشترك لحضور افتتاح المهرجان، لكن فعل ذلك سيؤدي بالتأكيد الى سجنه عند عودته الى بيروت. في الواقع، فقد دخل دويري في متاعب مع السلطات اللبنانية بعد انتهاكه قانون المقاطعة اللبنانية لاسرائيل لعام 1955 من خلال تصويره لفيلمه في اسرائيل وعمله مع طاقم انتاج وتمثيل اسرائيلي. فيلمه، ‘الهجوم’، منع في لبنان وتم تجاهله في العالم العربي. ‘هذا نفاق،’ صاح قائلا. ‘لماذا لا يمنعون افلاما صنعها مخرجون فلسطينيون ينتجون افلامهم في اسرائيل وفي بعض الأحيان من خلال مصادر تمويل اسرائيلية؟’.
‘الهجوم’، يحكي قصة طبيب جراح فلسطيني مشهور، يكتشف ان زوجته المسيحية كانت المسؤولة عن هجوم انتحاري أدى الى انفجار ومقتل 17 شخصا في مطعم في تل ابيب، حيث يقيم. مصدوما من الحدث وشكه بتفاصيله، يتجه الى الضفة الغربية ليواجه من قاموا بتجنيدها.
الجمهور الاسرائيلي كان متأثرا كثيرا بوجهة النظر التي اتخذها فيلم دويري حول الموضوع، وقام بالاحتفاء به بنشوة وتصفيق كبيرين، على الرغم ان البعض وجدوا ان القصة بعيدة الاحتمال كثيرا، قائلين انه لم يحصل ابدا ان كان هناك انتحاري من فلسطينيي الداخل، ناهيك عن ان يكون مسيحية او امرأة متزوجة.
موضوع الهجومات الانتحارية قضية حساسة جدا بالنسبة للاسرائيليين، الذين يعتبرونها عملا ارهابيا مقززا، اما الفلسطينيون، فيعتبرونها شكلا من اشكال البطولة والمقاومة للاحتلال، وهو أمر كان دويري واعيا له، كما قال ذلك للجمهور على سكايب من باريس، بعد العرض.
يقدم الفيلم بالتأكيد شخصيات غنية ويستفيد من سيناريو قوي، وأداءات عالية اضافة الى لقطات تصوير أخاذة، لكنه، لكنني كفلسطيني ترعرعت في اسرائيل، وجدت انه يفتقد الأصالة احيانا، لأن الشخصيات الاسرائيلية تبدو متسامحة كثيرا مع زوج الشخصية التي قامت بالتفجير، الذي بدا ضعيف التأثر بالآلام التي يعانيها شعبه.لا يحتاج الفلسطيني الى رحلة للتعرف على السبب الذي يحفز الاشخاص الذين يقومون بعمليات انتحارية. كل فلسطيني، بغض النظر عن منظوره للقضية، يعرف الجواب.
دويري زار اسرائيل ثلاث مرات وقضى متسعا من الوقت في تل ابيب قبل ان يقرر تنفيذ الفيلم بحيث يستطيع فهم عقلية الاسرائيليين. ‘لقد تعلمت، انكم هشون كما نحن، وانكم غير مستقرين مثلما نحن’ قال للجمهور الاسرائيلي. ‘انه يؤنسن هذا العنصر، عن شعب يتم النظر اليه كعدو. هناك واقع محزن على الارض. هذا احد وجوه اسرائيل. وقد شاهدت عنصرا آخرا وهو رائع’.
دويري المولود في جنوب لبنان كان عليه ان يعاني من الغضب غير المتسامح والقوة الهائلة للجيش الاسرائيلي الذي عاث خرابا في بلده لعقود من الحروب المستمرة. كما كانت له حوادث محزنة مع الجيش الاسرائيلي خلال تصويره في الضفة الغربية، ومع ذلك فان منظوره حول الاسرائيليين تغير كليا. ‘أحب كل الاسرائيليين الذين عملت معهم’، على ما قال لي.
كلمات دويري العاطفية نحو الاسرائيليين دفعت مديرة المهرجان للقول ساخرة ‘يجب ان ننتج افلاما مع العدو كي نؤسس السلام بين الشعوب’. مع ذلك، فان الجمهور العربي، الذي يصله طوفان غامر من الصور التلفزيونية تصور الفظاعات التي يقوم بها الجنود الاسرائيليون ضد الفلسطينيين، لن يشارك دويري مواقفه المتغيرة نحو الاسرائيليين. في الواقع، فان أنسنتهم أدت الى منع الفيلم في العالم العربي. حتى الآن، فان الصفقة الوحيدة لتوزيع الفيلم كانت في اسرائيل.
فيلم ‘الهجوم’ كان الفيلم الوحيد الذي يقدم عرضا أولا في مهرجان القدس السينمائي، لأن العديد من صانعي الافلام العرب، بمن فيهم المخرج الفلسطيني المرشح للاوسكار، هاني او اسعد، والذي حصل فيلمه ‘عمر’ على جائزة المحكمين في مهرجان كان الفرنسي في ايار (مايو)، يقاطع الفعاليات الثقافية الاسرائيلية. من المثير ان المخرج الاسرائيلي اودي الون، الذي تكلم بعد عرض فيلمه الوثائقي، فن/عنف، عبر عن دعمه لمقاطعة الفعاليات الثقافية الاسرائيلية، ما دامت اسرائيل مستمرة في احتلال المناطق الفلسطينية.
على عكس دويري، فان فيلم محسن مخملباف، ‘البستانيّ’، الذي يتناول موضوع الدين عموما والديانة البهائية خصوصا، لم يمنع من العرض في لبنان رغم انه صور في اسرائيل، بل انه ايضا حصل على جائزة الألف الذهبية لأحسن فيلم وثائقي في فيلم بيروت السينمائي العالمي.
تلك كانت المرة الاولى التي يقوم فيها مخملباف، مخرج افلام عديدة مثل ‘قندهار’ و’مقاطعة’، يعرض فيها فيلما في مهرجان سينمائي اسرائيلي. بعد وقوف الجمهور احتراما للمخرج بعد عرض الفيلم، قال مخملباف انه جاء الى اسرائيل كي يثير استفزاز السلطات الايرانية التي قامت بمنعه من زيارة ايران منذ التسعينات.
بعد مشاهدة الاحتفاء الاسرائيلي الكبير بمخملباف ودويري، يمكن للانسان ان يحس بعطش الاسرائيليين للتواصل مع الاخرين ورؤية كيف تتم مشاهدتهم من الطرف الاخر.
المفارقة ان النقد الأكثر شراسة للمجتمع الاسرائيلي وللبلاد عموما يأتي من صناع الافلام الاسرائيليون انفسهم. في فيلم وثائقي بعنوان ‘الغرب المتوحش في الخليل’، يكشف نسيم موسيك الوجه البشع والمتوحش للمستوطنين الاسرائيليين، الذين يغتصبون الارض بشكل غير قانوني من الفلاحين الفلسطينيين الفقراء، تحت حماية الجيش الاسرائيلي، كما يفضح الدعم الذي يلقاه المستوطنون من الجهاز القضائي الاسرائيلي. وثائقي اخر، ‘فن/عنف’، يقوم بفضح المحاولات المنظمة للقضاء على الثقافة الفلسطينية. فيلم سردي اخر، ‘انشالله’، يكشف الواقع القاسي للعيش تحت الاحتلال الاسرائيلي الوحشي في فلسطين.
هناك افلام اخرى في المهرجان التي تقوم دون خوف بفضح عيوب المجتمع الاسرائيلي ونتائجها المدمرة على الشعب الفلسطيني، مع ذلك فقد حصلت هذه الافلام على اعجاب واهتمام جمهور المهرجان. لقد فوجئت تماما حين تم التصفيق للمخرج الون بعد ان طالب بمقاطعة فعاليات اسرائيل الثقافية. بالمقابل، في الولايات المتحدة، فان انتقادات قاسية ضد اسرائيل يمكن ان تؤدي بمن يقوم بها الى المتاعب، ولذلك كنت حقا مدهوشا من نضج حرية التعبير في اسرائيل.
هذا النوع من النضج سيستغرق العالم العربي الذي ما زال يناضل للتحرر من مطرقة الانظمة الدكتاتورية وللخروج من ظلمات الاستبداد الديني وقتا طويلا ليصل اليه.
لكنني يجب ان اشير الى ان حضور المهرجان هم عموما من الليبراليين اليساريين، الذين يعتبرون أقلية في المشهد السياسي الاسرائيلي المحكوم باليمين المتطرف. في الحقيقة، فانك اذا مشيت عشر دقائق خارجا من سينماتيك عبر التل وصولا الى الجدران القديمة لمدينة القدس، فانك ستجد نفسك ضمن النزاع الشرس وعدم الثقة والكراهية التي تبدو بعيدة سنوات ضوئية من جو المهرجان الطوباوي. يمكنك ان تحس فعليا التوتر الذي يغتلي بين العرب واليهود، الذين يتصارعون ضمن جدران المدينة. احد سكان القدس قال لي ان المستوطنين الذين يعتبرون انفسهم في مهمة دينية مقدسة يضغطون العرب بعيدا عن المدينة.
وانا اعبر سوق المدينة القديم، في المساء، مجموعة من الشباب الفلسطيني الذين اشتبهوا انني يهودي صاحوا بي ‘اطلع من هون يا يهودي’، وحين وصلت الى مطار بن غوريون لأسافر عائدا الى امريكا، تم اقتيادي الى غرفة منعزلة، حيث قام عنصر أمن بتفحص كل حوائجي وملابسي. جواز سفري الاسرائيلي لم يكن مفيدا. كل فلسطيني في اسرائيل هو خطر امني، والافلام لن تستطيع تغيير هذا الأمر.