تكريم إيتيل عدنان

حجم الخط
2

يواصل «معهد العالم العربي»، في باريس، احتضان معرض تكريمي للشاعرة والتشكيلية إيتيل عدنان؛ المواطنة متعددة الجنسيات (سوريا، لبنان، أمريكا)، والأديبة متعددة اللغات (العربية، الإنكليزية، الفرنسية، واليونانية…). وثمة، في عداد ما يشاهده الزائر، سلسلة لوحات جديدة، زيت على قماش، تعود إلى سنة 2012؛ ونماذج من «اللفائف»، التي تحتوي النصّ والرسم، وتُفتح على هيئة الأكورديون؛ فضلاً عن أعمال تشكيلية قديمة، ونماذج من إصدارات الشاعرة.
والمعرض ينقسم إلى أربعة أجزاء، موزعة على موضوعات وغُرَف: «القيامة العربية»، التي ترصد أطوار حياة عدنان، ونصوصها التأسيسية، وبينها ذاك الذي تحمل الغرفة عنوانه، ويعود إلى سنة 1980؛ والغرفة الثانية تعرض رسومات جبل تامبلايس، قرب سان فرنسيسكو، حيث عاشت الفنانة طويلاً؛ والثالثة تحمل عنوان «جسور، منافٍ»، وترصد تأثيرات سلسلة من الأماكن التي شكّلت حياة عدنان، وأسفارها، في لبنان وفرنسا وأمريكا وإسبانيا وهولندا واليونان وإيطاليا، فضلاً عن سوريا والأردن والمغرب وتونس…)؛ أمّا الغرفة الأخيرة، «عالم من الألوان والصوتيات»، فإنها تضمّ اشتغال الفنانة على السجاد.
وعن علاقة الشعر بالتشكيل، كتبت عدنان: «كان الفنّ التجريدي معادل التعبير الشعري عندي. لم أكن بحاجة إلى استخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط. لم أكن بحاجة إلى الانتماء إلى ثقافة ذات توجّه لغوي، بل إلى شكل مفتوح في التعبير». وللمرء ـ ولديّ، شخصياً ـ ما يكفي من الدلائل، البصرية والتصويرية والتعبيرية، وسواها من المصطلحات المعتمدة في قراءة اللوحة والعمل التشكيلي إجمالاً؛ لكي يتجلى الصدق الكبير في ما تقوله عدنان عن شكل التعبير المفتوح ذاك، وعن لغة قصيدتها الخاصّة والمفتوحة بدورها.
ومنذ القصيدة الطويلة «كتاب البحر»، التي كتبتها في سنّ العشرين (هي اليوم في الواحدة والتسعين، بقلب شابّ أبداً!)؛ انهمكت عدنان في تلمّس ذلك القاموس التعبيري الفريد الذي سوف ينقلب إلى بصمة أسلوبية متميزة؛ وفي تطوير طاقاته التصويرية والتشكيلية بصفة خاصّة، وتأثيث عوالمه ومناخاته وموضوعاته، قصيدة بعد أخرى. وهذا العمل، المكتوب أصلاً بالفرنسية، وضع العلاقات التبادلية بين البحر والشمس في إطار من التعايش الأكواني والإيروسي؛ ولكنه جوهرياً رسم مشهداً تشكيلياً حاشداً في الأساس، ينقلب فيه لقاء البحر والشمس إلى انفجار بصري مذهل لعناصر الطبيعة المحسوسة والمتخيَّلة، وكذلك للعالم المادّي والمجازي، وللمعنى الآخر الأعظم وراء انحسار الحدود بين الشيء وكناياته، والكنايات ذاتها إذّ تدخل في استعارات مفتوحة.
غير أنّ عدنان لا تستطيع الانفكاك عن حقيقة اللغة الأمّ وحقوقها، وربما حقوق كلّ اللغات: أليس من المحزن، تقول الشاعرة، أنّ «كتاب البحر» قصيدة تعزّ على الترجمة إلى اللغة العربية، لا لشيء إلا لأنّ البحر اسم مؤنّث في الفرنسية ومذكّر في العربية، الأمر الذي ينسف البُعد الإيروسي الأهمّ في القصيدة، بل ويلغي معادلاتها الكبرى؟ هذه، بالطبع، بعض أكلاف العيش في ما نسمّيه عادة «منفى اللغة»، إذْ تعتبر عدنان أنّ منفاها «يعود إلى حقبة سابقة بعيدة، ويمتدّ زمناً طال كثيراً، حتى صار طبيعتي الخاصة. الشاعر، في نهاية المطاف، طبيعة إنسانية على النحو الأصفى، ولهذا فإنّ الشاعر إنساني كما القطة قطة، وشجرة الكرز شجرة كرز».
غير أنّ حال النفي هذه هي، أيضاً، بعض السبب في أن عدنان، الشاعرة تحديداً، تظلّ مظلومة كلما تعيّن توزيع شهادات «الريادة» على «الروّاد». إنها تكتب الشعر الرفيع منذ أكثر من نصف قرن، وهي ليست غائبة عن المشهد الشعري العربي لأنها واصلت الحضور ـ على طريقتها، بالفرنسية أوّلاً ثمّ بالإنكليزية ـ وساهمت في إطلاق صوت خاصّ لعلّ أثره يتخفّى طيّ العديد من التجارب العربية الناضجة المعاصرة، عند الشعراء والشاعرات على حدّ سواء. وبعض عزاء عدنان يأتي من حقيقة أنّها ليست مجهولة لدى القارىء العربي، بل أزعم أنها معروفة على نحو يحسدها عليه الكثيرون ممّن يكتبون مثلها بلغات أوروبية. عشرات من قصائدها تُرجمت إلى العربية، على يد شعراء وكتّاب متمرسين من أمثال سركون بولص وفايز ملص وخالد النجار وميّ مظفر وسواهم، نُشرت في مجموعات مستقلة، أو منفردة في دوريات أدبية بارزة، وأثّرت وما تزال في تكوين الذائقة الشعرية العربية المعاصرة.
وقبل سنتين مُنحت عدنان وسام الفنون والآداب الفرنسي، برتبة فارس؛ وهذا أحد أرفع الأوسمة الفرنسية في ميدانه، وسجلّ الحاصلين عليه، في مرتباته المختلفة، يضمّ أمثال فيروز (1988)، ومحمود درويش (1993)، إلى جانب ت. س. إليوت، خورخي لويس بورخيس، نادين غورديمر، شيموس هيني، فاكلاف هافيل… ولهذا فإنّ تكريمها اليوم، في معرض باريس الاستعادي المتنوع، يقطع خطوة إضافية على دروب إنصافها.
وللمرء أن يأمل في خطوات أخرى أفضل تثميناً، وأرفع تكريماً.

تكريم إيتيل عدنان

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Latifa halim:

    آيتي عدنان مفخرة العرب في الولايات المتحدة وفرنسا والعالم العربي شاعرة تستحق التقدير اذكر مساعداتها عندما كنت اهيء شهادة الدكتوراه ً شاعرات ما بعد جبران ً والتي نوقشت سنة 2003 بجامعة محمد الخامس الرباط المغرب
    لقد ساعدتني خلال البحث وكانت ترسل الي كتبها وتكتب عليها الإهداء بحروف عربية اتيل تستحق التقدير والاحترام
    وشكرا لمعهد العالم العربي على هذه الالتفاتة التي تدل حسن الاختيار لايقونة الشعر الشاعرة اتيل عدنان

  2. يقول لطيفة حليم مونتريال:

    شكرًا للكاتب المتميز صبحي حديدي على حسن اختياره لايقونة الشعرالعربي اتيل عدنان التي تستحق الفخر والتقدير
    لقد ساعدتني كثيرا خلال البحث و كانت ترسل الي كتبها بالانجليزية والمترجمة الى العربية موقعة باهداء بخط يدها بحروف عربية وذلك
    عندما كنت اجمع المراجع حول الموضوع الذي اشتغل حوله ً شاعرات ما بعد جبرانً والذي نوقش بجامعة محمد الخامس الرباط المغرب 2003. لنيل شهادة الدكتوراه
    د. لطيفة حليم

إشترك في قائمتنا البريدية