يبدو العالم كله مشدوداً اليوم بانتظار انتقال السلطة، في العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل، من باراك أوباما إلى دونالد ترامب الذي فاجأ فوزه جميع المراقبين ومراكز استطلاعات الرأي. وتعيد حكومات جميع الدول حساباتها، بعدما كانت قد رتبت أمورها على أساس الفوز المتوقع لمرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون، لتتعايش مع القادم الجديد إلى البيت الأبيض لأربع سنوات على الأقل.
ما زال ترامب لغزاً يحير المحللين بشأن السياسات التي قد يتبعها في مختلف المجالات. ويبني المتشائمون رؤيتهم على الخطاب الشعبوي الذي طبع حملته الانتخابية، فيما يقترح الأقل تشاؤماً وجود مسافة لا بد منها بين هذا الخطاب ومتطلبات السياسة الواقعية التي لا يمكن القفز من فوقها، بصرف النظر عن شخص الرئيس وأفكاره المعبر عنها. غير أن المحللين الأكثر حصافة إنما يركزون، بحق، على تحليل الموجة الشعبية التي أوصلت ترامب إلى رئاسة الدولة العظمى الوحيدة، بدوافعها وهواجسها وتوقعاتها.
وفي هذا الأمر يندرج صعود الموجة الترامبية هذا في إطار أوسع يشمل عدداً من الدول الأوروبية التي بدأت مع تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي فيما عرف باسم اقتراع «البريكسيت»، وقد يتبعه وصول محتمل لليمين الانعزالي المتطرف إلى السلطة في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي أبرزها النمسا وهولندا وفرنسا، بحيث لا يكون من باب المبالغة إذا استعرنا كلمات «البيان الشيوعي» الافتتاحية: «هناك شبح يحوم فوق أوروبا» في وصف اليمين المتطرف، بدلاً من كلمة الشيوعية الواردة في الكتاب الشهير لماركس وأنجلز.
لقد مضى اليوم نحو ربع قرن على سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الشيوعية، مقابل انتصار العقيدة الليبرالية في حلتها الجديدة المسماة بالعولمة. وبدا لأحد أبرز منظِّري تلك المرحلة، فرنسيس فوكوياما، أن التاريخ «انتهى». وما سيلي ليس أكثر من عصر ليبرالي أبدي ليس بعده بعد.
بعد سنوات قليلة على تبشير فوكوياما هذا، هزت الأزمة المالية العالمية بلدان الحلم الليبرالي الجديد، انطلاقاً من الولايات المتحدة، فتحول الحلم إلى كابوس لم يتغلب عليه الغرب، بصورة تامة، إلى الآن. لقد شكل المتضررون من تلك الليبرالية الجديدة المعولمة، وأزمتها معاً، من الطبقات المتوسطة التي انحدرت أحوالها، النواة الصلبة للقاعدة الانتخابية التي صوتت لدونالد ترامب. فقد كان تصويتها رفضاً للنظام الاقتصادي ـ السياسي القائم الذي خيب آمالهم وجعلهم يدفعون فاتورة الأزمة المالية، مقابل تسخير إمكانات الدولة لانتشال الشركات المفلسة من سقطتها.
وللاستقطاب الاجتماعي هذا بعده الثقافي أيضاً، أو غلافه الإيديولوجي، بطبيعة الحال. ألا وهو النزوع نحو الانغلاق وكره الأجانب والملونين وأبناء الهويات الدينية والعرقية والجماعات المختلفة، باعتبارهم العنصر الأضعف الذي يمكن تحميله مسؤولية انحدار الأحوال. وهو ما ينطبق أكثر ما ينطبق على اللاجئين والمهاجرين من ثقافات أخرى بعيدة. ارتبطت، في هذا السياق، عقابيل الأزمة المالية مع تصاعد موجات اللاجئين والإرهاب الذي تم ربطه بالإسلام، فنتج عن ذلك مزيج خطر يمهد لصعود فاشية جديدة باتت تطرق أبواب السلطة في العواصم الأوروبية.
وكما كانت الشيوعية، في أحد مستوياتها، تعبيراً عن المظالم الاجتماعية والسياسية التي أدت إليها الرأسمالية في طورها المبكر، يمكن اعتبار الترامبية ردة فعل على المظالم الناتجة عن الليبرالية الجديدة، في حين شكل تيار الجهاد الإسلامي العالمي أحد الأعراض الخارجية لعولمة اقتصاد السوق وقيمه. من غير أن يعني ذلك اقتصار تحليل هذه الظاهرة على هذا البعد وحده. فنحن، عالم المهمشين خارج «جنة» الليبرالية الغربية، لدينا دينامياتنا الخاصة التي شكلت أرضية مناسبة لظهور أحد أخطر عوارض العولمة، أي التيار الجهادي.
لا أحد يعرف معرفة اليقين بشأن السياسات التي ستتبعها إدارة الرئيس المقبل دونالد ترامب. ومن المحتمل أن الفريق الذي سيعمل معه، ولم يكتمل تشكيله بعد، سيعكف على صياغة تلك السياسات بما يوازن بين تطلعات الناخبين الذين وجدوا في ترامب تعبيراً عنها، والشروط الواقعية التي لا يمكن تجاهلها، سواء تعلق الأمر بالسياسات الداخلية أو السياسة الخارجية. لكن ما هو مؤكد أن النزعة الانعزالية التي تشكل نقيض العولمة، بسوقها الاقتصادية المفتوحة وقيمها ذات الطموح الكوني، قد انتصرت في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، إذا لم نذكر معهما بولونيا والمجر، وقد يلعب انتصار ترامب دور المحفز على تطورات مشابهة في عدد من البلدان الأوروبية الأخرى.
التشاؤم هو سيد الموقف عبر العالم. هذا شعور متكرر عند عتبة التحولات التاريخية الكبرى. ولا جدال في أن النزعة الانعزالية ارتكاس بالقياس إلى الانفتاح الذي شكلته العولمة. ولكن هذه الأخيرة أدت إلى نتائج كارثية على قطاعات اجتماعية ومناطق جغرافية واسعة. وهو ما مهد للارتكاس الراهن. يبقى أن مقاومة الموجة اليمينية الصاعدة، من أجل عقلنتها وضبطها، تتوقف على العمل وليس التشاؤم.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي