ما زالت الثورة المصرية وغيرها من ثورات العرب تكابد إرهاصات التحول نحو الديمقراطية المرتجاة، وتواجه مزيدا من الفخاخ المتعاظمة تلك التي ترمي للحيلولة دون تصاعد الزخم الثوري، بل واختزال تلك الثورات في أطر ومفاهيم تعيق التجديد والمأسسة لتغييرٍ ديمقراطي جذري وواضح المعالم، بدءا من المفهوم مرورا بالآلية ووصولا نحوالهدف المنشود. إذ بات من المعروف أن مراحل الانتقال بمختلف أشكالها يكتنفها كثير من التأرجح والتقلب، وهذا أمر يمكن تفهمه في سياق الولوج في ما بعدها من استقرار وتقدم، أو في ما بعدها من فوضى وانحسار. غير أن ما تشهده الثورات العربية المجيدة من مخاضات، لتخرج في بعض الأحيان من سياقها الاعتيادي، مما يثير كثيرا من التساؤلات والملاحظات حول أمن تلك الثورات ورسوخها، بل وربما جدواها. وفي هذا الإطار فإن القلق الذي ينتاب مختلف الأطياف الوطنية وهي ترى طيفا بعينه يمتد ظله نحو مختلف محاور الدولة وتفاصيلها، ذاك القلق يمكن تفهمه، في الوقت الذي يتراجع فيه دور الأطياف تلك، خصوصا أن إسهامها الثوري كان محوريا وحاسما، إذا ما قورن بإسهام غيرها ممن قدر لهم نصيب عريض من إرث تلك الثورات. إذ لم يعد خافيا على أحد أن تيار الإخوان المسلمين والتيار السلفي يتمتعان بمستوى تنظيمي وعقائدي مكن لهما من خوض الاستحقاق الديمقراطي والظفر بنتائجه، ناهيك عن العمق الشعبي في مجتمعات للخطاب الديني فيها تأثير حاسم، ذاك الخطاب الذي استخدمته التيارات الدينية بشكل ممنهج بغية تحقيق مكتسباتها السياسية. وهذا لا يعد نقيصة إذا ما سلمنا أن لكل تيار سياسي وسائله وقناعاته التي يوظفها بغية تجيير برامجه وتحقيق طموحاته. نعم، إن المتتبع للثورات العربية يرى وبوضوح ميلا شعبيا للتيارات الدينية اليمينية، وذلك لعوامل عدة، فبالإضافة لما يتركه الخطاب الديني من تأثير عميق في المجتمعات العربية المتدينة بطبيعتها، فإن الهجوم المتواصل الذي تعرضت له تلك التيارات، والتضييق اللامحدود عليها إبان عقود خلت، في ظل إخفاقات محورية صحبت التطبيق المشوه لنظريات تيارات أخرى، كل ذلك كان من شأنه زيادة التعاطف الشــعبي مع التيار الديني والتعلق به، لتحقيق الخـــلاص الذي بشرت به وعجزت عنه تيارات أخرى. غير أن التيار الديني في إطاره السياسي لم يكن يوما مثاليا وعظيما كما تشدق منظروه وأنصاره مطولا. إذ كثيرا ما تبنت تلك التيارات مواقفا متخاذلة حيال الأنظمة البائسة، تلك التي جثمت طويلا على آمال الشعوب وطموحاتها، بل ولم تتورع التيارات تلك، وعلى رأسها تنظيم الإخوان المسلمين، أبدا عن الانخراط والتورط في اتفاقات وتسويات مع تلك الأنظمة المستبدة بغية مواجهة وتصفية التحركات الشعبية التي تعتنق أفكارا تقدمية ومواقف أكثر ثباتا ونضجا لم يشكل المفهوم الديني محورها الأساسي، وليس أدل على ذلك من التحالف الذي تبلور في سبعينيات القرن المنقضي بين تيار الإخوان المسلمين في مصر ونظام السادات، ومن قبله التحالف الديني الذي قاده الملك عبدالعزيز بغية توحيد شبه جزيرة العرب، كما يمكن استذكار التعاون والتنسيق العالي بين النظام الأردني والذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين، المتمثل بحزب جبهة العمل الإسلامي، ذاك التحالف الذي كان يرمي للحد من المد القومي بإطاره الشيوعي واليساري. كل ذلك مكن للإخوان المسلمين وأتاح لهم مساحات واسعة تحركوا بها، مما أعطاهم الوقت لإنتاج تنظيم متكامل وكوادر مدربة، بينما كانت التيارات الأخرى، واليسارية منها على وجه الخصوص، كانت تعاني دائما من ملاحقة وتضييق ممنهجين، فانشغلت كوادرها في التخفي والهروب مما انعكس وبشكل جلي على قدرتها التنظيمية وفعالية أدائها بمختلف أشكاله، في الوقت الذي كان تيار الإخوان المسلمين ينعم باسترخاء هادئ نسبيا. وفي هذا السياق فإن التاريخ العربي الحديث لم يشهد تحركا جادا لجماعة الإخوان المسلمين في مواجهة طغيان الأنظمة العربية، بل على العكس من ذلك تماما، إذ كثيرا ما أسبغ ذاك التنظيم شرعية بائسة على تلك الأنظمة البالية وأسهم في تمددها ورسوخها. وهذا على الرغم مما شهدته بعض الدول العربية من مشاريع جادة لتنظيم الإخوان المسلمين، كما حدث في سورية وفي الجزائر. واليوم نرى ما جرى ويجري في مصر بعد وصول الإخوان المسلمين لسدة السلطة عبر صناديق الاقتراع التي أتت بها ثورة مجيدة لم يكن تنظيم الإخوان رأس الحربة بها ولا مهندسها، بل على العكس من ذلك تماما، فقد تأخر التنظيم في مصر في استيعاب مجريات الأمور والتحولات إبان تلك الأحداث والالتحاق بركب الثائرين، وليس أدل على ذلك من استجابة رموز التنظيم وأركانه لدعوات الحوار والتحاور التي أطلقها نظام الرئيس المصري المخلوع آنذاك محمد حسني مبارك، والتي أدراها مدير مخابراته ونائبه عمر سليمان. غير أن هذه الاستجابة تأتي منسجمة مع الأسلوب الذي انتهجه التنظيم منذ بداياته، إذ تجنب التنظيم دائما أي اصطدام مع السلطة وعمد في كثــــير من الأحيان نحــــو جسر الفجوات والتأسيس لقنوات اتصال وتواصل مع الأنظمة الـحــاكمة وأزلامها. وفي هذا السياق نستذكر التواصل الذي كان مستمرا بين مؤسس التنظيم حسن البنا مع حكومة خديوي مصر، في الوقت الذي كانت تتجه فيه قوى وطنية أخرى نحو حسم الصراع بشكل ثـــوري ونهائي، عندما نجح تنـــظيم الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر بتحقيق ثورة يوليو وعزل الخديوي، عندها اتجه تنظيم الإخوان نحو الإبقاء على حظوظه في الحياة السياسية بملامحها الجديدة عبر محاولته تجيير تلك الثورة وإطلاق مزاعم بالية حول قيادات تنـــظيم الضباط الأحرار. غير أن الظروف الموضوعية والنتائج المنطقية لثورة يناير كانت مغايرة لظروف ثورة يوليو بشكل جذري، فعلى النقيض من ثورة يوليو، لم تتمتع ثورة يناير بقيادات وتنظيمات واضحة ومحددة للاستمرار في قيادتها وحمايتها من محاولات التجيير والاختطاف، إذ أن عناصر تلك الثورة تشكلت بشكل أساسي من أطياف شبابية وقوى اجتماعية لا قاسم مشترك بينها سوى الهم الوطني العام، بعيدا عن فلسفات السياسة ودهاليزها، مما يعني بالضرورة افتقار قيادات تلك الأطياف لعناصر الدهاء والتنظيم والخبرة اللازمة للإبقاء على الزخم الثوري وتوجيهه بالشكل الأمثل. وفي ظل الغياب التنظيمي واللوجستي للقوى الثورية، فقد كان من البديهي أن تسقط ثورة يناير ببراثن تنظيم الإخوان والحزب الوطني الدستوري، مما أسهم في إفراغها من مضمونها الأساسي. ومن هنا فإن وجه الاختلاف بين ثورة يناير المباركة عن مثيلاتها من ثورات العرب التي سبقتها أو تلك التي تلتها، تلك الأوجه لتبدو اليوم جلية أكثر من أي وقت مضى. ففي الوقت الذي أقدمت به القوى الثورية في تونس وليبيا على استئصال شأفة الأنظمة البائدة، رغم تحفظنا على تلك الأساليب التطهيرية ذات الطابع الإقصائي، لم تتوفر الظروف المواتية للقوى الثورية في مصر من أجل اتباع أساليب تطهير مماثلة، ذاك أن تنظيم الإخوان المسلمين الذي تربع على سدة السلطة كان يفتقر لعنصر الشرعية الأهم وهو: عنصر الثورة نفسها. وفي هذا السياق فإن الحديث عن امكانية امتداد عدوى الانقلاب على الثورة كما حدث في مصر، انتقالها نحو دول كتونس مثلا، هو أمر مستبعد لعوامل عدة، إذ أن القوى الحاكمة في تونس اليوم هي قوى ثورية أقدمت على التأسيس لنظام حكم إئتلافي يمنع استحواذ طرف ما على السلطة دون سواه، مما يعني بالضرورة أن مخاوف اختطاف الثورة مستبعدة تماما، وجوقة تراشق التهم لن تبدأ. كما أن هروب الرئيس التونسي السابق وتشبث الزعيم الليبي بالسلطة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، أسقط زبانية تلك الأنظمة البائدة الواحد تلو الآخر ولم يسمح لهم بالالتفاف على الواقع الثوري، بعكس ما جرى في مصر حيث ما زال زبانية النظام السابق يتمتعون بكامل حرياتهم وكوادرهم. ومن هنا فإن نظاما تطهيريا قائما على الاقصاء تبرز أهميته في المراحل الأولى من الثورات بغية حمايتها، رغم ما يتضمنه أسلوب كهذا من تفرد وتأطير، يتناقض بشكل جذري مع مبادئ الحرية والعدالة المرتجاة.