على هامش الأساطير المصرية: هل قتلوه كما لو كان مصريا؟

حجم الخط
3

هناك الكثير من الأساطير التي تحيط بنا، بعضها لا يتجاوز حكايات الأطفال وقصص المغامرات في عالم الكرتون وحكايات ما قبل النوم، وبعضها يتردد من قبيل القياس والحكمة، وبعضها يتحول لحقيقة ويسيطر على الواقع بشكل مأساوي أحيانا بما يرتبه من سلوكيات ومواقف سلبية. من الأساطير الحاكمة في مصر، فكرة أن الحاكم يتنازل ويقبل بحكمها، وان المسؤول ترك عالم الرفاهية وتعطف بقبول المنصب دون مصلحة، وان النظام يملك ضبط النفس كما يملك الحق في الحبس بلا محاسبة والقتل بلا ثمن، والانفاق بلا رقابة، والاقتراض بلا مناقشة، وبيع أصول الوطن وكأنها أقل في المكانة من أملاك شخصية له ولمن يحيط به. يرتبط بهذا ويكمله أسطورة المواطن العالة الذي لم تكتشف له النظم أي ضرورة وجودية إلا في مظهر الحشود المؤيدة، والهتافات المفوضة، وتفاصيل عالم الضحايا الذي يكمل غرور القوة ويغذيها. أما الأسطورة الكبرى فهي ان الدولة المصرية وجدت ومرت بكل ما مرت به، لكي يكون لها حاكم، وأن ما فيها من أرض وشعب مجرد تفاصيل تكمل صورة العرش والقوة.
وما يغلف تلك الأساطير ويكسبها الغلاف الوطني الذي يوظف لصالح السلطة، فهو أسطورة أن قوة الدولة تتوقف على تجاوز السلبيات والدعم بلا توقف أمام الأخطاء. تتحول ممارسات النظام القمعية التي يجب إدانتها إلى واقع لا يناقش، لأن الحديث عنها يؤثر سلبا على مكانة الدولة. أما أخطاء الحكم والإدارة التي تزيد من معاناة الشعب، وتحالف السلطة والمال، فتتحول إلى جزء من أسطورة القوي الذي يتعاطف ويقبل بحكم الضعفاء، في حين تتحول الإشارة إلى أخطاء وعيوب وما يحدث إلى جزء من تهمة تشويه سمعة مصر.
تقسم كل الأشياء إلى أبيض وأسود وفقا لتعريف السلطة لمفاهيم مثل قيمة الدولة ومكانتها وسمعتها. وبدلا من أن تجرم السياسات والأفعال التي تمس كرامة المواطن والوطن، وتزيد المعاناة والخسائر، وتتخلى عن أراضي الوطن ومؤسساته ومصانعه بوصفها سياسات من شأنها أن تضعف من قيمة ومكانة الدولة في الحاضر والمستقبل، تتحول الكتابة عن تلك السلبيات والمطالبة بسياسات عادلة لأمور مجرمة في واقع يفضل أن يضع ستارا على الحقيقة من أجل تجميل الصورة على طريقة السجادة الحمراء، فكلها محاولات تجميل قائمة على إخفاء الواقع ولكنها تكشف عمق الفجوة بين الواقع والخطاب، والمتحدث والمواطن.
يصبح من الصعب أن تجمع المرات التي يتكرر فيها الحديث عن تهمة الإساءة لسمعة مصر يوميا، في التعليق على تصريح أو مقال أو عمل فني ناقد لسلبيات الواقع. تتحول لواحدة من الاتهامات الجاهزة التي تهدف إلى غلق مجال الحديث وتصنيف أطرافه إلى وطني وخائن تماما مثلما حدث مع تأميم شعار «تحيا مصر» واتهامات مثل الانتماء لجماعة إرهابية أو تكدير السلم العام. كلمات فضفاضة واتهامات جاهزة، غير واضحة الدلالة وتترك للسلطة ومن يمثلها أو يدافع عنها الفرصة لشن هجمات على غيرهم باعتبار أنهم أعداء الدولة وليس معارضة للنظام. وفي حين تسمح تلك الاتهامات بالمحاكمة والتعرض للسجن، فإن أفعالا حقيقية مثل التعذيب والقتل والفساد والإفساد يمكن الإفلات منها بسهولة.
بدورها ساهمت بعض الأحداث في طرح الفكرة ما بين تفاصيل تعذيب ومقتل بائع السمك مجدي مكين ونشر صوره على وسائل التواصل الاجتماعي، ومشهد احتفاء السيسي بفتاة تبيع على عربة في الاسكندرية بعد أن انتشرت صورها على وسائل التواصل الاجتماعي أيضا وما بينهما أسطورة الإنسان والشعبية والحالات الفردية. استغل السيسي التعاطف مع الفتاة وقابلها وقدم لها بعض المساعدات، مثل السيارة التي حرص على تأكيد أنها من ماله الخاص، فرصة لشعبية سهلة، في حين أن تواجد الفتاة بتلك الظروف ليس حالة فردية، وظروفها نتاج لسياسات من ناحية التعليم أو فرص العمل، وهي ومعاناتها شهادة على النظام، أما المقابلة فهي الحالة الفردية.
إلا أن الموقف يتعمق بصورة تظهر المفارقة وتكشفه في ظل التقارب الزمني ين اللقاء وتعذيب ووفاة مكين. وبدلا من الانتصار للكرامة وإدانة التعذيب بكلمة قاطعة يطالبنا البعض بالانتظار حتى لا نشوه صورة الوطن، وتروج بعض الجهات روايات عن أن القتيل كانت معه أقراص مخدرة في العربة، ويتم نشر ما قيل أنه صورة صحيفة حالة جنائية للقتيل تشير لما يفترض أنه سبق اتهامه بجرائم وفي التفاصيل أنه مسلم مخالفة لحقيقة أنه مسيحي بما جعل المنشور مختلقا ومحاولة تجميل القبح بالإنكار والتشويه. ولكن هذا التشويه تعبير عن الخلل في تعريف أصل القضية، فالقضية لا تتعلق بحقيقة اتهام مكين من عدمه، ولكن حقيقة أنه عذب واهين من عدمه. محور القضية ليس الاتهام ولكن الإنسان. ولكن للأسف أسطورة «الإنسان» وكرامته لا تجد تأصيلا لها في الواقع، لدرجة تأكيد البعض أن مجرد نشر صوره هو إساءة لمصر، بدلا من التأكيد على أن التعذيب هو أكبر تشويه ممكن أن يحدث في الدولة وللدولة. حتى أن نائبا برلمانيا من أعضاء وفد حقوق الإنسان الذي زار قسم الأميرية، اعتبر ان الموضوع «أخذ أكبر من حجمه، وأصبح فرصة يستغلها البعض لضرب مصر داخليا وخارجيا» وكأن تعذيب إنسان مجرد قضية هامشية.
تجاوز البعض هذا للحديث عن صورتنا لدى الآخر، وطرح سؤال عن رد فعل ايطاليا وعائلة جوليو ريجيني في ظل مقولة والدة ريجيني «قتلوه كما لو كان مصريا». والمشكلة الحقيقية في ترديد تلك العبارة انها تؤسس بشكل غير مباشر لفكرة أن السلوك طبيعي ما دام يمارس ضد مصري، أو يمارس في مساحات خفية لا تنشر على الرأي العام العالمي. وان يسارع البعض بالسؤال عن الصورة لدى الآخر تأكيد غير مباشر أن قيمتنا مشتقة من رؤية الآخر لنا ولما يحدث لدينا بأكثر من ان تكون قيمتنا الإنسانية هي الحاكمة وهي صورة تحتقر الإنسان حتى وهي تحاول الدفاع عنه.
وفي السياق نفسه من المهم الإشارة لما أكدت عليه أسرة مكين من أنها تدعم السيسي وهي تناشده بإعادة حق القتيل، الأمر الذي تكرر من قبل في حالة قتيل الدرب الأحمر، بما يؤكد على ترسخ فكرة التقسيم بين من يدعم ومن يعارض أو يختلف، وأن الضحية وأهله يرغبون في التأكيد على حقهم في العدالة بحكم دعمهم للنظام. وهذا مؤشر خطير على سير الأحداث ويرسخ فكرة أن العدالة ليست حقا للجميع، ومن يسعى لتأكيد فرصته في الحصول عليها من أهل السلطة يحاول أن يتملق من هو أعلى أو يؤكد ان لديه الحق على صاحب السلطة بحكم دعمه له. أما من يعارض فهو خارج مساحة العدالة الانتقائية التي ترتبط بالحاكم وتتجاوز أصل القانون وفكرة المساواة المفترضة أمامه.
يظل من المهم إسقاط خطاب الحالات الفردية الذي يقفز للواجهة في كل قضية تتعلق بالداخلية لأنه لا يحول دون تكرار التعذيب وسقوط الضحايا واستمرار التجاوزات. كما يجب إسقاط فكرة أن حل مشكلات الوطن يتم عبر اللقاءات المعلبة لأن المعاناة تتجاوز آلاف الذين لا يقابلهم الرئيس أو غيره. 
وإن كان من رسالة يجب التأكيد عليها فهي أن كرامة الإنسان هي المعيار لقيمة الوطن وليس العكس، وأن العدالة ورفض التعذيب وإعلاء الكرامة خطوط حمراء لا تمس ان أردنا وطنا حقيقيا وليس وطنا معلبا كل ما يهمنا منه الصورة التي تصنع وتروج وتنشر مخالفة للحقيقة لان الحقيقة كما قال غوتاما بوذا مثل الشمس والقمر لا يمكن اخفاءها لفترة طويلة.

على هامش الأساطير المصرية: هل قتلوه كما لو كان مصريا؟

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة ! ... لابد لليل ان ينجلى:

    يسلم قلمك وتسلم إيديك..
    اما كل من يتواطأ لإنكار او لإخفاء حالات التعذيب بصفة عامة والتعذيب حتى الموت بصفة خاصة بحجة انها حالات فردية او بحجة عدم الإساءة لسمعة مصر نقول؛
    وجودك فى اى موقع مسؤولية هو اكبر إساءة لسمعة مصر!
    ياسيد يامحترم مصر الوطن هى المواطن الفرد هى انا وانت وانتم، مصر هى المواطنين مصر هى الشعب وليست الأهرام وابو الهول وهى بالتأكيد ليست الصنم الأكبر، كرامة مصر من كرامة مواطنيها، وعلى قدر احترام الدولة او النظام (لا توجد دولة فى مصر!) لمواطنية على قدر احترام المجتمع لتلك الدولة او ذلك النظام، فالنظام المحترم لا يختطف مواطنية ولا يخفيهم قسرياً ولا يهدم مدارسهم ومساجدهم ولا يزيل مدنهم من الوجود ولا يهجرهم قسرياً من ارض آبائهم حرصاً على أمن العدو، ولا يتواطأ مع العدو ضد شعبه ولا يعتقل مواطنية عشوائيا ثم يوجة لهم تهم كوميدية مبكية ومضحكة من عينة التخابر مع دولة عربية شقيقة وإشاعة مناخ تشاؤمى او تهمة إقتحام السجون (وانت نفسك مختطف ومعتقل داخل السجن!) ولا يعذب مواطنية ولا يغتصبهم(نساء ورجال وشيوخ وأطفال) النظام المحترم لا يقتل مواطنية خارج إطار القانون وأمام أعين الجميع ثم يضع بجانب القتيل قطعة سلاح ويدّعى انة قاوم السلطات او يلقية من الدور الرابع او العاشر ثم يدّعى انة قفز من شقة دعارة بعد ان احس بمداهمة العسكر!
    النظام المحترم لا يتنازل عن مقدرات الوطن من غاز وبترول كرشوة للعدو لمساعدتة كى ينال رضا الإدارة الامريكية! ولا يتنازل عن حق المصريين فى مياة النيل كى ينال شئ من الشرعية من الإتحاد الافريقى ولا يشرى اسلحة بالمليارات من اوربا كرشوة بحثاً عن شرعية مازالت غائبة الى الآن ولن تأتى ابداً!
    النظام المحترم لا يحاصر الأشقاء كى ينال رضا الأعداء، ولا يرسل بطائرات دفع الشعب ثمنها للمساهمة فى إطفاء الحرائق المشتعلة فى قلب العدو! ثم يشعل النار فى الوطن والمواطنين! النظام المحترم لا يرسل طائرات دفع ثمنها الشعب ليشارك مجرم حرب من الطراز الأول فى قصف اهلنا فى الشام بحجة سمجة وسخيفة هى المحافظة على الدولة السورية!
    الدولة السورية التى هجّر بشار الجزار15مليون من مواطنيها!
    عن اى دولة سورية تتحدثون؟ ألم نقل ان كرامةالدولة من كرامة مواطنها وبدون مواطن لا توجد دولة، سوريا كما فى الحالة المصرية هى المواطن وليست الحجارة!
    نؤمن ببزوغ وشيك لفجر الحرية
    وربنا يديك على أد نيتك ياعبدة

  2. يقول د. علي المحاسنه|الاردن:

    مقال عميق من كاتبه مبدعة.

  3. يقول محمد حسنات:

    ما يسيء لسمعة ،فعل الإنتهاكات ،والجرائم بحقوق وحريات
    الناس،وليس ،كشفها والإعلان عنها للرأي العام !.
    متى تفهم أنظمة الإستبداد والفساد،وأدواتها القمعية، أن سياسة الإنكار،والتبرير،لم تعد تنطلي على أحد،وهي
    مفضوحة في الداخل كما في الخارج،فهل يتوقفون ؟!.

إشترك في قائمتنا البريدية