التأديب غير المبرر لا يعالج أمراض مصر المستعصية!

ماذا يجري في مصر؟ وماذا عن أحوالها المعيشية؟ وما وضع الحريات العامة والحقوق الشخصية؟.. أسئلة ضمن أسئلة عديدة تبحث عن إجابة.. وقلت لنفسي فلنبحث عن مفتاح يوفر عناء التيه في التفاصيل.. والمثل يقول الشيطان يكمن في التفاصيل، خاصة أن الناس بدأوا يحجمون عن الجهر برأيهم، وشغلتهم حياتهم، وأدارت رؤوسهم الفروق الشاسعة بين من يكدون ويكدحون لكسب قوت يومهم، وبين من يلعبون بالمال؛ مستندين إلى من يضربون بسيفهم، ومعتمدين على ألسنة تلهج بالثناء عليهم.
وعلى طريقة أرشميدس، وهو يقول وجدتها وجدتها. في لحظة اكتشافه لقانون الطفو. استطعنا العثور على المفتاح الغائب واسمه «التأديب»، وقد استقر نهجا تصاغ على أساسه علاقة السلطات الحاكمة بمواطنيها، وممارسة التعسف في استخدام القانون وتطبيقه على هوى هذه السلطات، وهو نهج قديم له رواده وخبراؤه وترزيته. وكان من المفترض أن يختفي بعد ثورتي يناير 2011 و30 يونيو 2013.
والتوسع في التأديب عمل غير مبرر؛ زاد من معدلات العقاب والتضييق، ونحى حوافز الثواب والتقدير، وسواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد؛ فهو يخدم القسمة التي يتم على أساسها التعامل مع المواطنين، فهم إما من «أهل الخير»؛ مؤيدين ومناصرين وهاتفين للرئيس السيسي، وظهيرهم الأمني من «المواطنين الشرفاء»؛ أصحاب السوابق وخريجي السجون؛ وهم جاهزون للاعتداء اللفظي والبدني بشكل «عمياني» كما نقول في مصر على من يفتح فمه أو يحمل لافتة أو يرفع صوته، وغير هؤلاء هم «أهل الشر»!!.
وأفصح الرئيس السيسي عن فلسفته في التأديب عندما علق على حكم محكمة جنح قصر النيل بحبس نقيب الصحافيين يحيى قلاش وخالد البلشي وكيل النقابة ورئيس لجنة الحريات بها، وسكرتيرها العام جمال عبد الرحيم، وتولى بنفسه «تجريم تهم» لم يصدر بها حكم بات بعد، وأضفى عليها بعدا سياسيا (رئاسيا)، ومع كامل الاحترام لمنصب رئيس الدولة ومقامه. فالتجريم ليس اختصاصه. أو اختصاص أي مسؤول تنفيذي مهما علا شأنه وارتقت وظيفته، وأمره معقود لسلطة القضاء. ومحدد بنصوص الدستور والقانون، دون تدخل سلطات الدولة الأخرى، ولا يتبدل لخلاف أعضاء في مجلس نقابة الصحافيين مع وزارة الداخلية، أو مع من كلفتهم وزارة الداخلية باقتحام النقابة، دون التزام بنصوص وضوابط القانون، وبدت إجراءات الشرطة شديدة التعسف، وغطت الاقتحام بغلالة قانونية مهلهلة، وبسؤال عدد من فقهاء القانون والدستور فلم يقروا ذلك التعسف المصاحب للاقتحام، ولم يقبلوا بمبرراته. فضلا عن أنه الحادث الأول في التاريخ القانوني المصري، وبدا وكأنه هدية وزارة الداخلية للصحافيين في الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس نقابتهم!!
وسبب اعتبار التجريم الرئاسي تسييسا لحكم المحكمة، يرجع إلى صدوره عن شخصية سياسية هي رئيس الجمهورية، وهي صفة يتمتع بها وحده في الوقت الراهن، وليس بين المسؤولين من يحمل هذه الصفة، فلا هم حزبيون، أو متمرسون في السياسة، أو وصلوا إلى مناصبهم بالانتخاب، بمن فيهم وزير الخارجية؛ وهو دبلوماسي وليس سياسيا، وقد درجت الأمور في السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، ووجود جمال مبارك كرئيس مواز؛ درجت على تعيين أصحاب رأس المال والسماسرة والمقاولين ووكلاء الاحتكارات الصهيو غربية في مناصب الوزارة من غير السياسيين، والوزير مجرد درجة وظيفية ومالية؛ يتقاضى عنها مرتب الوزير، ولا يملك صلاحياته.
والوزير الموظف ينفذ التعليمات، والوزير السياسي يضع السياسات.. وهنا أشير لشهادة يوسف والي، الذي مكنته علاقاته الصهيونية الواسعة من تولي منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة وأمين عام مساعد للحزب الوطني المنحل، وهذا أضفي عليه صفة سياسية. ولما أُستُدعي للتحقيق بعد ثورة يناير 2011 في انحرافات وزارة الزراعة وقضايا الأسمدة الفاسدة والمبيدات المسرطنة، وتبديد أراضي الدولة؛ خرج من التحقيق «كما تخرج الشعرة من العجين» كما يقول المثل المصري، وكانت حجته أن الوزراء «سكرتارية خاصة لدى الرئيس»؛ تنفذ أوامره، ولا تتحمل مسؤوليتها. وعاد يوسف والي لبيته، ولم يمسسه سوء؛ وحوكم الرئيس المخلوع هو وولداه علاء وجمال.
والتأديب في عصر الرئيس السيسي أضحى فلسفة؛ تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتُسهل فهم ما يجري في مصر. ومع ذلك ليس هناك ما يمنع من تعرض الرئيس السيسي لما تعرض له الرئيس المخلوع حسني مبارك. وباب التأديب مفتوح على مصراعيه، وصوره عديدة؛ إفقار ممنهج، وعجز دائم عن تأمين احتياجات المواطن الأساسية، وعودة إهدار الآدمية في أقسام ومراكز الشرطة والسجون، ومنها ما حدث مؤخرا لنزلاء سجن برج العرب من تعذيب، حسب ما جاء على ألسنة أهالي النزلاء، الذين احتجوا على سلالم نقابة الصحافيين الأسبوع الماضي.
وما قام به أهالي نزلاء سجن برج العرب قريب مما فعله عمرو بدر؛ رئيس تحرير موقع «بوابة يناير» الألكتروني، ومحمود السقا المحرر بنفس الموقع. وهما من احتميا بالنقابة تجنبا لبطش الشرطة، وكانت النقابة قد اعتادت ترتيب تسليم الصحافيين المطلوبين لسلطات التحقيق بصورة كريمة وإنسانية، وتكليف محاميها لحضور التحقيق ومتابعة سَيره.. إلا في حالة بدر والسقا، فقد حيل بين النقابة وبين ما اعتادت عليه تجاه أعضائها، وإمعانا في التعسف أصرت وزارة الداخلية على تأديب الصحافيين جميعا في شخص نقيب الصحافيين وزملائه، وأحيلوا للنيابة بتهمة إيواء مطلوبين للعدالة!!.
وتتابعت الأحداث وانتهت بصدور الحكم سنتين وغرامة عشرة آلاف جنيه، وذلك الحكم صدر ومعه التجريم الرئاسي، وبدا تصريح الرئيس وكأنه مباركة لحكم المحكمة، ولهذا وُضع في سياق تأديب الجماعة الصحافية؛ وأضحى التأديب كفلسفة حكم لا يستثني أحدا، وطال بائعا متجولا بسيطا يعمل على عربة «كارو»؛ كمجدي مكين، وشهادة الشهود على أن موته حدث من فرط التعذيب في قسم شرطة الأميرية بالقاهرة.
وكان تفسير الجيران والمعارف وأهل الحي أن فقره وعمله المتواضع سبب التعذيب والموت.
طال التأديب مهنيين ومثقفين ونشطاء وصحافيين وإعلاميين؛ منعت عزة سليمان المحامية ورئيسة مؤسسة قضايا المرأة من السفر، وتم التحفظ على حسابها المصرفي، وكذلك منعت الأستاذة الجامعية عايدة سيف الدولة، عضو مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب من السفر، وامتد المنع إلى صحافيين وإعلاميين، ووصل لعمرو الليثي، الذي بث شريط (فيديو) شهير لسائق «توكتوك».‬ ‬
والسؤال لماذا يقوم رجال شرطة بأعمال إجرامية؛ تجد من يتستر عليها وينكرها، والأجدر هو الاعتراف والاعتذار عنها إذا كان الاعتذار يكفي.. أما جرائم التعذيب والتأديب والقتل فيجب على وزارة الداخلية أن تبادر بتقديم المتهمين للنيابة العامة.. ويكون ذلك بداية إصلاح أجهزة الأمن وتغيير وتطوير مناهج معاهد وكليات وأكاديميات الشرطة، ووقف العنف في العمل الشرطي، فاستمراره من مظاهر التخلف والجهل وتدني التربية وضحالة المعرفة وانحطاط السلوك. وفيه إساءة بالغة للملتزمين بضوابط القانون والسلوك الأخلاقي بين رجال الأمن والشرطة..
والشرطة في أمس الحاجة إلى استعادة الظهير الشعبي والوطني ومؤازرة المواطنين لها في معركتها ضد الإرهاب والعنف المسلح والجريمة المنظمة.. والوضع لا يتحمل ممارسات شاذة وسادية من هذا النوع. لماذا لم يتعلم هؤلاء من درس يناير 2011؟ ولماذا عجزوا عن رؤية ما يمكن أن يتعرضوا له من خطر؟ ومن أثر عودة موجة الكراهية ضدهم إلى الشارع مرة أخرى؟!

٭ كاتب من مصر

التأديب غير المبرر لا يعالج أمراض مصر المستعصية!

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية