بعد وفاة الشيخ مكتوم: الامارات في قبضة الجيل الثاني
د. سعيد الشهابيبعد وفاة الشيخ مكتوم: الامارات في قبضة الجيل الثاني غيب الموت حاكما عربيا آخر، وتلك هي ارادة الله في خلقه. وقد جاءت وفاة الشيخ مكتوم بن راشد المكتوم، حاكم دبي، ورئيس وزراء دولة الامارات العربية المتحدة، مفاجئة للكثيرين نظرا لحالة التكتم الشديد علي اوضاعه الصحية في الفترة التي سبقت وفاته الاسبوع الماضي عن عمر ناهز الثانية والستين. ولم تستغرق عملية استخلاف الفقيد فترة طويلة، بل أعلن عنها في اليوم نفسه. وقبل عام واحد رحل حاكم ابوظبي، رئيس دولة الامارات العربية، ومؤسسها، وخلفه نجله الشيخ خليفة، الرئيس الحالي للامارات. الحادثتان أوضحتا حالة التوافق القائم بين الاسر الحاكمة بمشيخات دولة الامارات العربية المتحدة، وسهولة انتقال السلطة بين افرادها، وهي حالة لم تكن موجودة قبل عشرين عاما مثلا، عندما تعرض حاكم الشارقة، الشيخ سلطان القاسمي، لانقلاب قام به أخوه، الشيخ عبد العزيز، او عندما قام الشيخ زايد في 1968 بانقلاب ضد أخيه، الشيخ شخبوط. وفي الوقت نفسه اتضحت حالة الكتمان الذي تحاط به صحة حكام الخليج عموما، واعتبارها من اسرار الدولة التي لا تنكشف ابعادها الا بالوفاة. يضاف الي ذلك ان الحادثة سلطت الاضواء علي عدد من الامور ذات العلاقة بدولة الامارات العربية المتحدة. فالجيل الاول من الحكام، مؤسسي الدولة الاتحادية بدأ يفارق الحياة، ليخلفه الجيل الثاني، الاكثر ثقافة واطلاعا. ولكن ليس معروفا بعد ما اذا كان الحكام الجدد للمشيخات السبع المكونة لدولة الامارات العربية المتحدة قادرين علي التعايش ضمن الاطر التقليدية التي كانت موضع اتفاق مؤسسي الدولة، وما اذا كانت الامارات بحكامها الجدد ستكون قادرة علي الحفاظ علي التوازن الحساس الذي بذل الشيخ زايد جهودا مضنية للحفاظ عليه وعدم السماح بزعزعته، وعلي هدوء علاقاتها مع الدول المجاورة، خصوصا المملكة العربية السعودية التي تشهد العلاقات معها شيئا من التوتر الخفي. وما يقال عن الامارات ينطبق علي بقية دول الخليج الاعضاء بمجلس التعاون الخليجي، في قضايا توارث الحكم وانتقال السلطة والاوضاع الصحية للحكام، وحجم ثرواتهم، وعلاقاتهم الخارجية، ومدي اعتمادهم علي الغرب في استقرار اوضاعهم، ومدي قدرتهم علي الاعتماد علي الذات لتحقيق الاستقلال السياسي والامني والاقتصادي. الاهتمام برحيل الشيخ مكتوم، وتولي اخيه، الشيخ محمد، مقاليد الامور ينطلق من الشعور بان دبي قطعت شوطا في النمو الاقتصادي والمالي، برغم قلة مواردها النفطية وضآلة ثروتها البشرية. فقد اصبحت مركزا ماليا دوليا يستقطب الشركات العالمية ويجذب المشاريع بكافة اشكالها. فمثلا استطاع آل مكتوم تحويل دبي الي بيروت ثانية بعد تأسيس المدينة الاعلامية، واستقطبوا شركات الخدمات الدولية الاخري والاستثمارية. وشهد عهد الشيخ مكتوم في دبي انجاز العديد من مشاريع البنية التحتية والمشاريع العقارية والسياحة الضخمة التي حولت امارة دبي رغم قلة مواردها النفطية، الي مركز اقليمي للاعمال والسياحة. وقد أكسبها ذلك شهرة عالمية جعلتها محجة للزوار والمستثمرين من كافة انحاء العالم. لقد اهتم الشيخ راشد بن مكتوم، بتعليم ابنائه واعدادهم لتحمل اعباء الحكم، ووفر لهم فرصا جيدة للنمو والتطور، ودفعهم للتعامل بقدر من العلمية والموضوعية مع اوضاع بلدهم وتطويرها. وبرغم تأخر دخول التعليم الحديث الي الامارات، بسبب السياسة البريطانية التي لم تشجع ذلك، ولم تبن المدارس او المعاهد العلمية حتي انسحابها في 1971، فقد خطت الامارات خطوات الي الامام علي طريق العلم، وبنت اولي جامعاتها بعد سنوات علي تكون الدولة، وسبقت بذلك البحرين التي لم تؤسس اولي جامعاتها الا في الثمانينات. فقد شعر مؤسسو دولة الامارات بضرورة قطع اشواط سريعة علي طريق التعليم والبناء البشري بعد عقود من التجهيل في العهد البريطاني. ودخلت الامارات السوق الاعلامية بجدارة منذ السنوات الاولي بعد قيامها، فأصبح لجرائدها حضور عربي واسع. واليوم تحتضن دبي المدينة الاعلامية التي استقطبت عددا من المؤسسات الاعلامية مثل قناة ام بي سي واصبحت مقرا لمطبوعات سعودية عديدة. ويعود ذلك لاسباب منها مرونة قوانينها التجارية وتحرر نظمها الادارية، وسعة أفق قادتها، خصوصا في غياب معارضة داخلية قوية للنظام. برغم ما تقدم فالامارات محكومة بمحيط اقليمي ضاغط، ومرتبطة بمنظومة سياسية لا تنفك عنها. وبالتالي فهي تشترك مع ذلك المحيط وتلك المنظومة في الظواهر العامة ولا تستطيع التحرك خارج اطرها. ومن تلك الظواهر المشاكل الحدودية الناجمة عن تشكل الدول الاقليمية الحديثة. هذه المشاكل ما تكاد تختفي حتي تظهر مجددا، حتي لكأنها قدر محتوم لهذه المنطقة. فالخلاف مع ايران حول الجزر الثلاث ليس الا واحدا من الخلافات الحدودية مع بعض جيرانها. فهناك خلاف بينها وبين المملكة العربية السعودية حول منطقتين مهمتين: حقل الشيبة الواقع علي الحدود الشرقية للامارات مع السعودية، وخور العديد الذي يفصل بين الامارات وقطر. ففي 1999 دشنت السعودية حقل الشيبة الذي تسميه الامارات زرارة بعد سنوات من التنقيب والبناء، وانشاء البنية التحتية استعدادا لبدء الانتاج فيه بما في ذلك بناء مطار خاص به. ولم يكن خافيا علي أحد آنذاك غياب وزير الخارجية الاماراتي عن مراسم الافتتاح الذي حضره بقية المسؤولين الخليجيين. هذا الحقل ينتج الآن اكثر من نصف مليون برميل يوميا. وهناك خور العديد الذي تصر الامارات علي ملكيته، بينما تصر الرياض علي سيادتها عليه. ويبدو اصرار الامارات علي ما تعتبره حقا مشروعا لها في هاتين المنطقتين في الكتاب السنوي الذي تصدره دولة الامارات كل عام والذي تضمن في نسخته الجديدة التي صدرت مع مطلع هذا العام خريطة تظهر اعادة ضم خور العيد الي امارة ابوظبي، وتمديد الحدود في منطقة الربع الخالي بحيث يتم اخذ ما نسبته ثمانون في المئة من حقل الشيبة النفطي. كما اظهرت الخريطة تواصل الحدود البرية بين قطر وابو ظبي، الامر الذي يحدث للمرة الاولي منذ ثلاثين عاما علي الاقل. وتعكس هذه الخطوة اصرارا من قبل حكومة دولة الامارات علي تثبيت الحدود رسميا وفرضها كأمر واقع وقطع الطريق علي اية مساومات او وساطات في المستقبل، وايصال رسالة واضحة الي الحكومة السعودية تفيد بأن دولة الامارات غير مستعدة للتنازل عما تراه حقا مشروعا لها.وكانت الحكومة السعودية تطالب بحقوق مائية لخورالعديد الذي يبلغ طوله حوالي عشرين كيلومترا، علي اعتبار ان هذا حق لها حصلت عليه بمقتضي اتفاقية جدة الموقعة بين الجانبين، ولكن دولة الامارات رفضت الاعتراف بهذا الحق، وقالت ان هذه الاتفاقية لا تعطي السعودية اي اطلالة علي مياه الخليج. ونصت الاتفاقية الموقعة بين الطرفين علي ان الدولة التي يقع ما نسبته ثمانون في المئة من حقل الشيبة النفطي العملاق ضمن اراضيها تملك الحق في تطوير هذا الحقل والاستفادة من انتاجه النفطي بشكل كامل. وهذا ما حدث فعلا، حيث جري ترسيم الحدود بحيث تقع النسبة الاكبر من الحقل في الاراضي السعودية الامر الذي ترفضه الامارات حاليا. واعادة رسم الحدود البرية في الربع الخالي بحيث يقع ما نسبته ثمانون في المئة من حقل الشيبة في الجانب الاماراتي هو تثبيت عملي لهذا الرفض. وكانت الأزمة الحدودية قد تفجرت بين البلدين وظهرت الي العلن في ربيع العام الماضي عندما اعلنت كل من دولة الامارات وقطر عزمهما علي اقامة جسر بحري يربط بين البلدين، الامر الذي اغضب السعودية، واثار اعتراض حكومتها، لانها اعتبرت ان هذا الجسر يمر فوق مياهها الاقليمية في خورالعديد. وهكذا تبدو الامارات متجهة نحو السياسات التي انتهجتها كل من عمان وقطر في ما يتعلق بالعلاقات مع السعودية، والتي تتسم بنزعة تحررية من الهيمنة، وهي السياسة التي هيمنت علي العلاقات داخل مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه قبل ربع قرن. ربما كانت الظروف آنذاك قد فرضت علي الدول الصغيرة الصمت والاستسلام للارادة السعودية في عهد الملك فهد بن عبد العزيز وهو في عنفوان قوته. غير ان تطورات ما بعد حرب الخليج الثانية خلقت حقائق جديدة شجعت الدول الخليجية علي البحث عن سياسات مستقلة، خصوصا بعد ان اتضح ان الرياض نفسها تعاني من ازمات داخلية غير قليلة، سياسية واقتصادية. فالرياض اليوم ليست كالامس، بل تعاني من تراكمات العقود الثمانية الماضية التي تمثل عمر المملكة، وغياب الارادة السياسية لدي قادتها خصوصا في مجال الاصلاح، وعدم توفر القيادات السعودية المتعاقبة علي امكان القيام بدور قيادي فاعل علي الصعيد العربي. الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، كان ينتهج سياسة توافقية مع الجارة الكبري وبقية الجيران، ولكن تداعي صحته في السنوات التي سبقت وفاته، فتح الباب امام الحكام الجدد من الجيل الثاني للامساك بزمام الامور والتعاطي مع الملفات الحدودية والسياسية بشكل مختلف. وبالمقارنة بين حكام الامارات وحكام السعودية يمكن ملاحظة الفرق الشاسع في نمط التفكير والتوجه السياسي والاولويات. فحكام الامارات ليسوا مثقلين بتراث تراكمي يحتوي علي تداخل صعب التفكيك بين السلطتين الدينية والسياسية، وهو التراث الذي اثقل كاهل الحكم السعودي في الفترة الاخيرة وجعله مستهدفا من قبل القوة الكبري الحليفة. حكام الامارات، خصوصا في دبي، استطاعوا الهيمنة المطلقة علي شؤون بلدهم، وحددوا لانفسهم طبيعة علاقاتهم مع العالم الخارجي، الخليجي والاجنبي، وهندسوا نظمهم المالية والاقتصادية من منظور مختلف تماما. وساعدهم علي ذلك عدم وجود شعب كبير يطرح مطالب صعبة او يتطلع لشراكة سياسية عميقة مع الحكم. هذا هو نصف الحقيقة. اما الحقيقة الاخري في هذا المجال فهي مرونة الحكم في الامارات وواقعيته ازاء ما يتعرض له من ضغوط. فقد تعاون مع السلطات الامريكية في مسألة التصدي للارهاب. الامارات، مع ذلك، ليست بمنأي عن التحديات التي تواجه المنطقة عموما. فالتحدي الارهابي يتربص بها، ولا يستبعد ان تستهدف من قبل القوي المتطرفة، خصوصا مع اسراع دبي علي الطريق الليبرالي وما تعتبره الاتجاهات الدينية تماديا في التغريب والتمرد علي الهوية . وبصعود الشيخ محمد بن راشد الي حكم امارة دبي، ورئاسة وزراء دولة الامارات العربية، لا يستبعد ان تتوجه انظار المتطرفين الي الامارات، فتتحول الي أهداف مشروعة للعنف والارهاب. ظاهرة التغريب هذه عنوان لمشكلة وان كانت حلا لمشاكل أخري. واذا اراد الشيخ محمد بن راشد ان يوفر علي نفسه وبلده شيئا من التوتر والعنف السياسي، فانه مطالب باعادة النظر في سياساته الليبرالية، والسعي لمحاصرة حالة الانفلات الاخلاقي والديني الذي تعيشه بعض الاوساط في دبي. وفي الوقت نفسه، يجدر بحكام الامارات اعادة النظر في توجهاتهم وعلاقاتهم مع الجيران، فالتوتر مع السعودية لا يخدمهم، وكذلك التوتر مع ايران. ويجدر بهم البحث عن مخارج ممكنة من حالة التوتر في العلاقات، وعدم الاعتماد المطلق علي الدعم السياسي والامني الذي توفره الاستخبارات الغربية خصوصا البريطانية منها. فلا مستقبل للامارات، خصوصا دبي، خارج محيطها العربي – الاسلامي، وفي اطار المنظومة الاخلاقية التي تحكم هذا المحيط. لقد كان الشيخ راشد عصاميا في سياساته ومواقفه، واستطاع بناء دبي في اطارها العصري، وفي جوانبها التعليمية والتجارية والاتحادية، ومطلوب من ابنائه الاستفادة من نمط الحكم الذي مارسه، وكيف استطاع ان يحول تلك المنطقة الصحراوية الي قبلة للسياح، وهدفا للمستثمرين، وعنوانا لازدهار اقتصادي منقطع النظير. لقد خطا ابناء راشد خطوات كبيرة الي الامام، ومطلوب منهم ان يثبتوا تلك الخطوات في طريق البناء والاعمار والانفتاح السياسي، ولكن ضمن الاطر العربية والاسلامية التي تحافظ علي هوية المنطقة، وتقف بوجه الاطماع الاجنبية تحت اي غطاء. فسياسة الانفتاح غير المنظم التي تميزت بها سلطات دبي في السنوات الاخيرة لن تحقق لها الامن والاستقرار و التطور علي المدي البعيد. ومن الحكمة بمكان ان يعيد ابناء الشيخ راشد النظر في اولوياتهم علي صعيد النمو الاقتصادي والسباق الخدماتي، والانفتاح السياسي والاعلامي والاكاديمي. فبذلك يستطيعون ادارة بلدهم علي طريق الاستقلال والتطور. ہ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن9