مسدس قصيدة النثر

حجم الخط
2

لعله، بالفعل، «المسدس الأشهر في تاريخ فرنسا الأدبي»، كما وصفته وكالة الصحافة الفرنسية؛ وقد يصحّ القول، كذلك، إنه كاد أن يغيّر وجهة التاريخ الأدبي الكوني، في ما يخصّ شاعراً فريداً اسمه أرتور رامبو على الأقلّ، وحول طراز لا يقلّ فرادة في كتابة القصيدة الحديثة. ذاك هو المسدس الذي استخدمه الشاعر الفرنسي بول فرلين في محاولة الإجهاز على صديقه وحبيبه رامبو، في أحد فنادق بروكسيل، ، نهار 10 تموز (يوليو) 1873: انطلقت من المسدس طلقتان، واحدة أصابت رامبو في رسغه، والأخرى طاشت فارتطمت بالجدار وارتدت إلى المدفأة.
ومؤخراً أعلنت «كريستيز»، شركة المزاد الشهيرة، أنّ المسدس بيع بمبلغ 434.500 يورو، بعد أن شاءت المصادفة أن تُكتشف أصالته، وبالتالي قيمته التاريخية والمادية، بعد مرور 143 سنة على واقعة استخدامه. وفي الشطر المحزن من حكاية الاكتشاف هذه أنّ بلدية شارلفيل ـ ميزيير، مسقط رأس رامبو، لم تتمكن من شراء المسدس لعرضه في متحف البلدة المخصص للشاعر؛ إذْ جمعت 1700 يورو فقط، فبدا المبلغ مثيراً للشفقة أمام ما انتهى إليه ذلك المقتني الغامض، الذي بقي مجهول الهوية.
أمّا في الشطر الأدبي، والشعري تحديداً، من الحكاية؛ فالإنصاف يقتضي البدء من فرلين نفسه، أحد أهمّ الأسماء في خريطة الشعر الفرنسي الحديث. لقد التقط بودلير في عمر مبكّر للغاية، وجهد طويلاً لمواصلة تلك الأسلوبية الفريدة التي بشّرت بها مجموعة «أزهار الشر»؛ وأغنى الشعر الفرنسي بالكثير الجديد، في مستوى الموضوعات والتقنيات، وحرّره من كمّ مماثل من الأعراف والقيود. كذلك حقّق فرلين الرابطة الشاقة بين مالارميه ورامبو، وانتمى إلى «الحركة البرناسية» دون أن ينجرف إلى جمالياتها الرومانتيكية المطلقة، ودون أن يكبح جماح الترميز الكثيف والتصوير التشكيلي للعالم المادي. ثمّ عاش حياة صاخبة وعاصفة ومضطرمة، ظلت مشحونة بكل ما هو جدير بشاعر بوهيمي.
ولعلّ «الصداقة اللدودة» التي جمعته مع رامبو هي التفصيل الأكثر دراماتيكية في فصول تلك الحياة. ففي أيلول (سبتمبر) من العام 1871، تلقى فرلين رسالتين من رامبو، وصلتا من بلدة شارلفيل واحتوتا على عدد من القصائد (هي اليوم جزء من كلاسيكيات الشعر الفرنسي)؛ مع طلب بأن يبذل جهوده لمساعدة رامبو في المجيء إلى باريس. وهكذا بدأت صداقة خاصة حقاً بين الشاعرين، لم يمض وقت طويل حتى أخذ الشارع الباريسي يتقوّل حول طبيعتها؛ وزاد في الطين بلّة أنّ ظروف طفولة فرلين، مثل طفولة رامبو، قد خلّفت الميول الواضحة نحو المثلية الجنسية، الأمر الذي أسهم في تكريس مشاجرات دائمة بين الشاعرين.
ويبدو أن أحداً لا يعرف على وجه الدقة ما الذي اعترى فرلين في بروكسل، صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، حين خرج باكراً لابتياع مسدس، وعاد مخموراً عند الظهيرة. «هذا لك، ولي، وللجميع»، قال وهو يُظهر المسدس لرامبو. ولكن الرجلين غادرا الفندق معاً، وشربا، وتناولا الطعام، ثم عادا إلى الغرفة، وإلى وصلة شجار جديدة أسفرت هذه المرة عن طلقتين من المسدس. وفي المستشفى دخل الصديقان اللدودان في جدل جديد لم ينفع في تبديل قرار رامبو بالعودة إلى فرنسا. وبعد تضميد الجرح غادرا إلى المحطة دون مشكلة قانونية لأن رامبو لم يتقدم بشكوى، ولكنهما تشاجرا في الطريق. وتجمع الروايات على أنّ فرلين مدّ يده إلى جيبه أو هدّد باستخدام المسدس ثانية، مما جعل رامبو يفرّ من أمامه ويحتمي بشرطي. وبعد ساعة كان فرلين محتجزاً في انتظار حكم سيصدر بحقّه بعد أقل من شهر، ويقضي بسجنه سنتين.
في السجن ارتدّ فرلين إلى نزعة تديّن كاثوليكية كانت محفورة في وجدانه منذ الطفولة، لكنها امتزجت برؤيا نبوية تجوس أركان هذا المجتمع «المقيت، العفن، الخسيس، الأرعن، والملعون»؛ ولا توفّر نقداً لأحد: الديمقراطية، الجمهورية، حقّ الانتخاب، فكتور هيغو، فلوبير، غونكور… ولكنّ فرلين الجديد هذا لن يتردد في البحث عن رامبو فـــور خروجه من السجن، والسفر إليه في شتوتغارت لإقناعه بالعودة إلى فرنسا، دون طائل. وفي ذروة صعود مجده وانتخابه «أمير الشعراء» الفرنسيين، أخذت الأمراض تفتك بجسده (الروماتيزم، السكري، السفلس، ذات الرئة…)، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة يوم الثامن من كانون الثاني (يناير) 1896 بعد غيبوبة طويلة.
وفي العودة إلى المسدس الشهير، قد يصحّ القول إنّ فوهته، التي أخطأت قلب رامبو، كانت قد حفظت لشكل قصيدة النثر واحداً من أبهى نماذجها، «فصل في الجحيم»، التي كان رامبو قد بدأ يكتبها في شارلفيل وبلجيكا ولندن، ثم استكملها بعد تلك الواقعة، وكانت القصيدة الوحيدة التي نشرها بنفسه. أمّا حامل المسدس، فرلين، الشاعر الكبير بدوره؛ فقد قضى نحبه كما يليق بشاعر بوهيمي رجيم، غير عادي: وحيداً، عارياً، ممدّداً على بلاط غرفة مظلمة باردة.

مسدس قصيدة النثر

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عباس محمد/العراق:

    الفقراء

    إنه الموت الذي يعزي واحسرتاه
    وهو الذي يحملنا على الحياة
    إنه غاية الحياة والأمل الوحيد
    الذي يرفعنا ويبعث كالإكسير النشوة في نفوسنا
    ويزوّدنا بالجرأة التي تجعلنا نتابع الطريق إلى النهاية
    عبر الإعصار والثلج والجليد
    هو الضوء المتموّج في آفاقنا السود
    إنه الفندق الذائع الصيت
    الذي يوفر الطعام والراحة والنوم
    إنه الملاك الذي يحمل بين أصابعه السحرية
    الرقاد ونعمة الأحلام السعيدة
    ويسوي مضاجع الفقراء والعراة
    هو مجد الآلهة ومخزن الغلال الرمزي
    وكيس نقود الفقراء وموطنهم القديم
    إنه الرواق المفتوح على الآفاق
    المجهولة.

    (ترجمها عن الفرنسية: حنّا وجورجيت الطيّار)

  2. يقول سلوى:

    نتمنى ان تكتب لنا ايضا عن ابولينير وقصائده الرائعة وشكرا جزيلا

إشترك في قائمتنا البريدية