قادمون يا موصل والبعث الجديد

تتابع مراكز الدراسات والبحوث العالمية نشر التقرير بعد الآخر عن «ما بعد تحرير الموصل». ولا تقصر أجهزة الإعلام العربية في متابعة ما يسمى أحيانا «معركة الموصل» أو «تحرير الموصل» أو «الحرب ضد داعش»، ولكل مسمى رسالة، تضيف مأساة مدينة الموصل إلى المآسي اليومية في فلسطين وسوريا واليمن وليبيا. فما الذي سيجري «بعد التحرير» أو بعد الانتهاء من «المعركة» والانتصار على «داعش»؟
آخذين بنظر الاعتبار اختلاف الجهات المصدرة للتقارير حسب البلد والتمويل وسياسة المراكز، هناك اتفاق، شبه تام، على ان التحرير لن يكون تحريرا فعليا وان « ما بعد التحرير» لن يحقق ما تدعيه الحكومة العراقية، على الرغم من مشاركة 63 دولة في « التحرير»، وضخ مئات الآلاف من الشباب العراقي للقتال تحت تصنيفات تراوح ما بين الجيش والفرق الخاصة وميليشيات الحشد الشعبي، بتشعباته العشائرية والإثنية المتوزعة التمويل والتدريب، بالإضافة إلى قوات البيشمركة الكردية الموزعة ايضا على ادارات وتمويل متشعب. أنها، كما تشير الدلائل، حرب خاسرة استراتيجيا، وهي حرب يقاد فيها الشباب العراقي للنحر، عبثا، وبمجانية لا مثيل لها، باستثناء عرس الموت في ثمانينيات القرن الماضي، أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية التي لم ينتصر فيها غير الموت والخراب.
فما هي ملامح صورة «ما بعد التحرير» ؟
أولا : من الواضح ان الدول المنخرطة الآن في «الحرب على الإرهاب»، على ارض العراق، لن تتخلى بسهولة عن بلد ثري يمدها بكنز استثماري ناجح اسمه الحرب. فالحروب، بما تتضمنه من تسويق مربح لصناعة السلاح والمعدات العسكرية وحتى مجال البحث والتطوير العلمي المرتبط بالصناعات العسكرية، ضرورية لبناء اقتصاد وتنمية الدول المساهمة وخاصة أمريكا وبريطانيا. هناك، أيضا، عقود النفط، وعقود البناء الوهمية. ويضمن كل من الحرب والعقود الوهمية استمرار اضعاف العراق كدولة، وتحويله إلى دمية من خرق ترقص حسب رغبة من يديرها.
ثانيا: بات من البديهيات القول بأن «الانتصار العسكري على تنظيم الدولة»، لا يعني القضاء على الفكر الجهادي المتطرف، أيا كان، وتطبيقاته عبر التنظيمات، بضمنها الإرهابية. الحل هو بحث اسباب نشوء التنظيمات (هناك دول إرهابية ايضا) التي تلجأ إلى الإرهاب سلاحا لترويج فكرها، ومن ثم إيجاد سبل العلاج. على رأس قائمة السبل هو فهم المواطن أن وضعه ووضع عائلته سيكون اكثر ضمانا بدون هذه التنظيمات الإرهابية، وقناعته بأن ولاءه الأول والأخير لبلده الذي ساهم ببنائه، ويتمتع فيه بالكرامة وحقوق المواطنة، وما يصيبه كفرد يصيب الجميع وليس حزبا أو عشيرة أو دينا أو عرقا أو طائفة. وهذا ما لن يحدث، حتى في اكثر السيناريوهات تفاؤلا، استنادا إلى واقع الحكومة الحالية، بفسادها المذهل وعرقية وطائفية ساستها، من كل الاحزاب المشاركة.
ثالثا: تتبنى التقارير الدولية الصادرة في أمريكا، خاصة، الموقف الداعي إلى معالجة جذور الإرهاب في العراق والمنطقة العربية عموما، وهو يتطابق، نظريا، في بعض تفاصيله، مع ما تدعو اليه منظمة الامم المتحدة وما قد يفكر فيه معظم الحريصين على إعادة الاستقرار إلى العراق، لكننا وحالما ننظر بعيدا عن السطح، المزوق بمصطلحات «تحقيق السلام»، حتى نعثر على ما تم التعامي عنه وأهمل ذكره تضليلا. حيث ترمى مسؤولية ما يجري في البلاد من حرب وجرائم وانتهاكات، على مدى 13 عاما، الأخيرة، كنتيجة للصراع الأبدي بين الشيعة والسنة، والمسلمين والمسيحيين، والعرب والكرد، ولا يوجد ما يشير إلى مسؤولية المحتل ومرتزقته وحكومته بالنيابة لا من قريب ولا بعيد. أي ان هذه الصراعات الدموية هي التي أجبرت أمريكا على غزو العراق لتحريره من آثامه. ينعكس هذا الموقف الامبريالي على معظم الحلول المطروحة لمرحلة «ما بعد تحرير الموصل». إذ تؤكد خلاصة بعض البحوث الموجهة للسياسة الأمريكية إلى ان اعادة قوات الاحتلال الأمريكي ومستخدمي الشركات الأمنية والمرتزقة إلى العراق هو لـ«دعم العراقيين» في حربهم ضد الإرهاب، ومن ثم ايجاد السبل لتحقيق « السلام» عبر معالجة اسباب ظهور تنظيم « داعش» أي معالجة التمييز والاقصاء الذي يتعرض له «السنة» والا، تحذر التقارير، قام «السنة»، بالتعاون مع من تسميهم «البعثيون الجدد»، (وهو مفهوم جديد يجدر رصده) الذين يضمون فصائل المقاومة، بضمنها كتائب ثورة العشرين وهيئة علماء المسلمين، بتأسيس تنظيم إرهابي آخر، يهدد أمن العراق والعالم.
رابعا: تنصح التقارير الإدارة الأمريكية المقبلة، برئاسة دونالد ترامب، ألا تكرر الخطأ الجسيم الذي ارتكبته إدارة الرئيس أوباما حين تسرعت باغلاق قواعدها وسحب قواتها من العراق. هذه المرة، توصي التقارير، بوجوب ابقاء القوات الأمريكية، بل وارسال المزيد منها، لئلا تضيع تضحيات الجنود الأمريكيين والشعب الأمريكي، دافع الضرائب، عبثا.
المهم في هذه التقارير «الموضوعية» الموجهة لصانعي السياسة الخارجية الأمريكية تكريسها، بطريقة ضمنية غير مباشرة، مفهوم ان «السنة» هم «داعش»، وان على «الشيعة» إيجاد حل لتقليم إرهابهم. الأكثر أهمية هو كيف تقود هذه التقارير، المسمومة برأيي، تقديم الفتنة الطائفية والعرقية التي نمت في ظل الاحتلال الأمريكي، وبتعاون إيراني، باعتبارها واقعا عراقيا، أزليا، لا يمكن التخلص منه الا بمساعدة قوى الاحتلال بذريعة حماية أهل البلد من أنفسهم.
كيف نعيد تبليط شوارع مدننا الجميلة بالأسمنت بدلا من الدماء؟ لعل الخطوة الأولى هي نبذ كل تدخل خارجي، أيا كان تغليفه. الحقيقة التاريخية البسيطة هي ان لكل دولة مصالحها واستثماراتها وحكومتها التي تضع أعلى سلم أولوياتها ضمان حياة وحقوق المواطنين. هذه الحقيقة غائبة في العراق، حيث فكك الاحتلال الدولة وتم تأسيس حكومة فاشلة تحقق « الانتصارات» عبر نحر مواطنيها، كل المواطنين، بلا استثناء. هذه هي الحقيقة التي يجب ان نعمل على تغييرها، بأسرع وقت ممكن، لئلا تغلف رايات الموت السوداء القلوب وليس الجدران فقط.

٭ كاتبة من العراق

قادمون يا موصل والبعث الجديد

هيفاء زنكنة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جندي متقاعد:

    عاشت يدك وشكرا لهذا التحليل الدقيق.
    بقي القول ان اطراف التحالف ضد “داعش”
    متباينون بل ومتضاربون في تطلعاتهم لما
    يسمونه مرحلة “ما بعد داعش”.

  2. يقول عفيف/امريكا:

    ست هيفاء
    ارى انك ترمين مسؤليه ظهور تنظيم الدوله على الاحتلال الامريكي للعراق،،،السبب هو فقدان الامن بعد ان حل بريمر الجيش العراقي و بضغط من الاكراد حيث رفضوا الاشتراك في الحكومه اذا لم يحل الجيش
    و دليلي على هذا ان تنظيم الدوله ظهر في سوريا و اليمن و ليبيا ولم تتدخل اي دوله هناك،،،بل فقدان الامن

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    ذهب صدام ليظهر ألف صدام وكذلك ستذهب داعش لتظهر ألف داعش
    المشكلة بالعراق هي بعدم وجود عدل حقيقي يساوي بين المواطنين
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    سميت الأشياء بمسمياتها.

  5. يقول أ.د. خالد فهمي - تورونتو - كندا:

    شكراً للأستاذة هيفاء على المقال المهم والمواتي زمنياً لما يجري في العراق اليوم…لقد كتبت تعليق على مقال الأستاذ قنديل المنشور في القدس العربي يوم 5/12/16 بعنوان ” في نعي العراق ” وقلت ما يلي…

    أنا كعراقي مغترب عن الوطن الغالي أكثر من ” ربع قرن ” من الزمان أؤيد ” تقسيم ” العراق الى دويلات على أسس قومية وعرقية و دينية وحتى جغرافيّة…لماذا ؟؟؟ لأن ” الديمقراطية الزائفة ” التي جاء بها أحتلال ” بلاد الكاوبوي ” لمدة 9 أعوام تلتها 5 أعوام لحكومات طائفية فاشلة !!! أرجعت البلاد الى الخلف عشرات السنين وأضاعت ثروات الوطن المالية بالسرقات والفساد ولا حول ولا قوة ألاّ بالله العلي العظيم !!!

    لعل وعسى ” تفكيك ” العراق الى كيانات ودويلات كما ورد أعلاه سيعطي الفرصة لكل من أهل السنة والجماعة من العرب والكرد والكرد العلمانيين واللبراليين والشيعة من العرب والكرد (الذين لا يدينون ولا يتبعون ” فقيه زمانه الآخندي خامنئي) والمسيحيين والأزيديين…ألخ الفرصة ” الحقيقية ” (وبضمانات دولية أممية) لنيل الحقوق والحريات والديمقرطية وحكم القانون ” الحقيقي ” وبالتالي الجلوس لتشكيل ” عراق فدرالي ديمقراطي” يحكمه القانون المدني ويحتكم الى حقوق الأنسان (كما هو حال كثير من أنظمة الحكم في أوروبا مثل الأتحاد السويسري والفدرالية الألمانية وغيرها)…والله تبارك وتعالى من وراء القصد !!

    أقول يا أستاذتنا أن على العراقيين الذين ” لا ناقة لهم (في الحكم والمصالح) ولا جمل ” أن ينتهوا من ” الدولة العراقية ” كما عرفتها الأجيال منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الأحتلال الأميريكي (1945-2003) والعمل على البدأ من ” جديد ” وبعقد أجتماعي وسياسي يضمن الحقوق والمساواة لجميع العراقيين…. والله تبارك وتعالى وليّ التوفيق !!!

إشترك في قائمتنا البريدية