بيروت ـ «القدس العربي»: هي دير القمر عاصمة لبنان القديم، يوم كانت مقراً لحكم الإمارتين المعنية والشهابية في زمن السلطنة العثمانية، فتألقت سياسياً واقتصادياً وتجارياً وتربوياً، لكنها فقدت وهجها ودورها مع نشوء لبنان الكبير، وتحوّل الأنظار إلى بيروت العاصمة والمركز السياسي والاقتصادي والتجاري للبنان.
لكن زائر منطقة الشوف الجبلية لا بد من أن تستوقفه هذه المدينة نظراً إلى جماليتها وطراز بيوتها القديم ونمطها المعماري التراثي الذي لا يزال مُحافَظاً عليه حتى اليوم.
تقع دير القمر في قضاء الشوف في محافظة جبل لبنان وترتفع عن البحر 850 متراً، وتبعد عن بيروت نحو 35 كيلومتراً. هي اليوم تعتبر من المدن المسيحية الكبرى والرئيسية في الشوف. لكنها تشكل نموذجاً حياً لـ «التغيير الديموغرافي» الذي ينتج عن الحروب الطائفية، والذي عاشته بين الدروز والمسيحيين في أحداث العام 1840 وما يُعرف بعمليات «الترانسفير» التي نشهدها اليوم في سوريا والعراق ومناطق النزاع من حولنا، وشهدناها قبلاً في فلسطين، ليست سوى ترجمة لصراع الأمم.
الكتابة عن تاريخ دير القمر ليست بالأمر السهل، وروايات المؤرخين ليست موحّدة. اسمها عربي وذلك يدل على حداثة تكوّنها كمدينة، لكن المؤرّخ جوزيف نعمة، ابن دير القمر، يعتبر في كتابه عن تاريخ مدينته أن اسمها هذا لا يعني بالضرورة أنه لم يكن لها اسم آخر في زمن الفينيقيين، الذين استفادوا من قربها إلى الشاطئ لجهة الدامور في اتجاه الجنوب. ودليله على ذلك وجود هيكل لعبادتهم بُنيت على أنقاضه في عصور لاحقة كنيسة «سيدة التلة» ووجود فسيفساء وعظام تعود لأطفال كانوا يقدّمونها قرابين لآلهة الشمس والقمر، وقبور فينيقية متفرقة محفورة في الصخور تُنبئ عن تواجدهم في هذه البقعة.
الآراء حول تسميتها تتضارب. ثمة مؤرخون يعتبرون أنه تم اقتباس اسمها من صورة هلال أو قمر يعلوه الصليب محفورة على صخر وُجد في أوائل عهد الإمارة المعنية بين الخرائب التي تقوم عليها اليوم كنيسة «سيدة التلة» ولا يزال هذا الصخر مثبتاً إلى يومنا هذا قرب الباب الرئيسي للكنيسة. وثمة مَن ينسب أصل الإسم إلى عثور لفيف من الرهبان على أنقاض دير في غابة تقع أعالي البلدة، فراحوا يبنونها في الليل على ضوء القمر لإضطرارهم للعمل في النهار كسباً للقمة العيش، فكان أول دير للمسيحيين في مرتفعات جبل لبنان شيّد في دير القمر.
ليس الفينيقيون وحدهم من كان لهم موطئ قدم في دير القمر. الصليبيون الذين أتوا إلى الشرق الأوسط اتخدوا منها مكاناً خلال غزواتهم لـ «تحرير» بيت المقدس، وأقاموا فيها الخنادق، بحيث تُنسب لهم «حارة الخندق» التي لا تزال موجودة.
لكن تألق دير القمر والمجد الذي عاشته يعود إلى الإمارتين المعنية من 1516 وحتى 1697 والشهابية من 1697 وحتى 1841حيث كان الحكم يعود إلى الأمراء الدروز. يقول العميد الركن أدونيس نعمة الذي أنجز كتاب والده، أن الأمير فخر الدين المعني الأول، استعان بمهندسين إيطاليين من «توسكانا» للمساهمة في إعمارها. وجعل من بعقلين ودير القمر مركزاً لحكمه بعد أن كانت بعقلين هي مَن تحتكر هذا الامتياز، واصطحب معه عسكره وعائلات استوطنت قرب نبعي «الشالوط» و «مار نقولا». كانوا «فلاحين» يهتمون بأراضي الإمارة وشكّلوا نواة العائلات الحالية. وفي زمن الأمير فخر الدين، شيّد المسيحيون كنيستهم، وأمر بتشييد مسجد لوجود مسلمين في جيشه، ومنهم فرقة «السكمان».
الإمارة المعنية لم تَعرف حدوداً ثابتة، فكانت تصل أحياناً إلى وسط سوريا وفلسطين وأحياناً كثيرة تصغر، إنما كانت تُدار من بعقلين ودير القمر. وبعد انتهاء حكم المعنيين، جاء الحكم الشهابي، وتعززت أكثر دير القمر مع الأمير بشير الثاني الكبير، حيث ازدهرت التجارة والصناعة والأسواق والمدارس، وأصبحت مقصداً من كل حدب وصوب بحيث وصل عدد سكانها إلى الخمسة عشر ألف نسمة. غير أنه انتقل إلى بيت الدين المجاورة بعدما بنى قصره فيها في ظل نشوء خلافات مع سكان الدير نتيجة قتله الأخوين (جرجس وعبد الأحد باز) وحذَرَه مِن أن ينقلب السكان ضده.
ولكونها مركزا تجارياً ومالياً، استقطبت دير القمر عائلات يهودية مقتدرة مالياً، أقامت فيها وبنت منازل جميلة منها «دار موسى شوعا» الأثري. وبنى مهندسون يهود الكثير من بيوت دير القمر، ما يُفسّر وجود رسومات نجمة داوود وكتابات عبرية على بيوت كثيرة تحتوي على تاريخ الإنشاء واسم المهندس الذي أشرف على البناء، كما هي الحال في كنيسة سيدة التلة وكل المناطق الأثرية. وبنوا كنيساً لا يزال يُعتبر من المعالم في عهدة مديرية الآثار، وهو شهد إحياء عرس أحد الضباط الإسرائيليين أثناء غزو لبنان عام 1982 إذ يومها أحضر الجيش الإسرائيلي خرائطه للاستدلال عليه وعلى مدافن اليهود، فوجدوه لكنهم لم يتمكنوا من العثور على المدافن. وسعوا إلى وضع اليد على الكنيس إلا انهم فشلوا في إثبات ملكيتهم له، لوجود صَك ملكية ممهور بتواقيع كل زعماء العائلات اليهودية التي استوطنت دير القمر ويُثبت تخليهم عنه.
واستقطبت دير القمر البعثات الأجنبية، فجاءها الأمريكيون وافتتحوا فيها أول مدرسة أمريكية في الشرق الأوسط، وجاءت البعثة الأمريكية-البروتستانتية وبدأت بالتبشير، ثم جاء اليسوعيون و»الفرير» فكان الكثير من أهالي جزين وزحلة والدامور وبكاسين يقصدون دير القمر طلباً للعلم.
وما يُميّز هذه المدينة أن بلديتها هي أقدم وأعرق بلدية في المنطقة. كانت البلدية الأولى في لبنان والشرق الأوسط، التي أنشئت على يد المتصرّف العثماني داوود باشا في العام 1864 لتتحول بعدها بسنة إلى بلدية مُنتخبة، مسجلة إنجازات ضخمة في البنى التحتية ورصف الشوارع تتقدّم ما يتم إنجازه اليوم على مستوى العمل البلدي الراهن.
صحيح أن ذلك الوهج الذي عرفته دير القمر أيام لبنان القديم، قد خَـفُت بفعل التحوّلات التي شهدها لبنان، وبفعل انتقال الثقل السياسي والمالي والتجاري والتربوي إلى بيروت بعد نشوء دولة لبنان الحديث، لكن ما تحتضنه الدير من خصوصية تاريخية وأثرية ومعمارية يبقى حاضراً في تاريخ الأجيال على مرّ العصور.
قد يكون أبناؤها لا يعيرون كبير اهتمام ودراية لما تشكله دير القمر، لكنها في الواقع ليست مهمة الأفراد بقدر ما هي مهمة المجلس البلدي والدولة بمديرياتها المختصة لتأتي في مرتبة ثانية الجمعيات والمنظمات المحلية والدولية. فأهمية دير القمر تتعدى اتفاقيات «توأمة» مع «الدائرة الخامسة» التابعة لمدينة «ليون» الفرنسية، و «توأمــة» لكنيسة سيدة التل مع عدة كــنـــائس في الخارج، للعمل من أجل إدراج بعض معالمها تحت وصاية «الأونيسكو».
والمعالم التاريخية والأثرية في هذه المدينة لا تحصى، ولعل أهميتها أنها تجمع بين الجامع والكنيسة والكنيس، و «الخلوة» التي يتّخذ منها الدروز مكاناً للعبادة، والتي تحدّث عنها المؤرخ نعمة، وهي تعود اليوم لملكية خاصة لكن تمّ ترميمها.
ومن أبرز المعالم التي يمكن التوقف عندها:
• جامع الأمير فخر الدين، الذي بناه الأمير المعني فخر الدين الأول عام 1493 ويتميز هذا الجامع بمئذنة مثمّنة الزوايا تعتبر آية في الفن الهندسي. يُرقى إليها بسلّم حجري مؤلف من خمسين درجة. وقد نقش اسم بانيه وتاريخ إنشائه على واجهته الغربية التي تكللت بآيات 36 و37 و38 من سورة النور: «في بيوتٍ أذِن الله أن تُرفعَ ويُذْكرَ فيها اسْمُهُ، يُسبحُ لهُ فيها بالغدو والآصَال، رجالٌ لا تُلهيهم تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإقامِ الصّلاةِ وَإيتَاء الزَّكاةِ يَخَافُون يَوْماً تَتقلَّبُ فيه القُلوبُ والأبصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَن مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ، وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغيْرِ حِسَاب».
• سراي الأمير فخر الدين الثاني، وتُعرف باسم «متحف ماري باز» وتُعتبر من أقدم سرايات لبنان وسوريا.
• «القيصرية» التي بُنيت لتكون سوقاً للحرير والحياكة على النَول، وكان اسمها مشهوراً في أسواق الحرير الأوروبية والشرقية. وهي الآن مركزاً ثقافياً فرنسياً.
• سراي الأمير ملحم الشهابي، التي كانت مقر إقامته وأسرته. ومن ثم اتخدها الأمير بشير الكبير مقراً له، وهي المكان الذي شهد مقتل الأخوين باز.
• سراي الأمير أحمد الشهابي وفيها نزل إبراهيم باشا المصري.
• سراي الأمير محمود الشهابي.
• سراي الأمير يوسف الشهابي، التي هي سراي الحكومة وبإدارة مديرية الآثار ومقدمة لبلدية دير القمر لاستعمالها.
• دار «موسى شوعا» وهو ثري يهودي، من العائلات اليهودية التي سكنت دير القمر وكانت تشكل «ثمْن» عدد السكان.
• دار بطرس كرامة، شاعر الأمير بشير الكبير، داخلها كنيسة أثرية، ثم أصبحت مدرسة رسمية قبل أن تُعاد إلى المطرانية الكاثوليكية، والآن هي فندق.
• مقبرة القبة، دُفن فيها آخر المعنيين وأول الشهابيين، وأيضاً دُفن فيها الأمير المؤرخ حيدر الشهابي.
على أن مَن يزور دير القمر، لا بد من أن يستوقفه «قصر موسى». هو ليس من القصور الأثرية أو التاريخية، لكن أهميته تعود إلى أن موسى المعماري بناه بمجهود فردي خلال القرن الماضي ليغدو أحد أجمل مرافق دير القمر السياحية.
دير القمر مدينة عُرفت أيضاً برجالاتها من أهل السياسة والفكر والقلم والعلم. منها خرج رئيس الجمهورية كميل شمعون، وداوود عمون رئيس مجلس النواب، وأوغست باشا أديب رئيس مجلس الوزراء. ومنها خرج نواب ووزراء وكبار الموظفين في الدولة والسلك العسكري. فمِن رحمها وُلد فؤاد أفرام البستاني وكتّاب وصحافيون وشعراء، من كرم ملحم كرم مؤسس دار «ألف ليلة وليلة» إلى ابنه نقيب الصحافة السابق ملحم كرم، وغيره من أهل القانون والقضاء، حتى أن الطبيب الخاص لأدولف هتلر كان هنري شاوول نعمه، ابن دير القمر.
زائر الشوف سيقصد دير القمر بالتأكيد، وإلا لا تكتمل جولته الشوفية. لكن تلك المدينة المميزة، التي يصل عدد أبنائها إلى 14 ألف نسمة، تفتقد إلى المقوّمات التي تجتذب السياح، إذ أنها لا تحتوي سوى على عدد قليل من الفنادق الصغيرة والمطاعم المحدودة، وتفتقد إلى مكتبة عامة وإلى كتيّبات سياحية ومرشدين.
نقص أو ثغرة لا تحتاج، في واقع الأمر، سوى إلى استعادة أبنائها حبهم لبلدتهم وبذل بعض من المجهود الجماعي في إطار العمل البلدي، والذين إذا اسميتها «ضيعة» يحمقون، ولا يقبلون إلا بأن تُسمى مدينة، لكنهم لا يتعاملون معها على هذا المستوى، ولاسيما أن الكثير منهم في عالم الاغتراب، وغالبية المتواجدين فيها يقصدون بيروت والساحل في الشتاء، ولا يبقى في مدينتهم الجبلية سوى أولئك المتمسكين بالأرض أو المتقاعدين الذين يعود بهم الحنين إلى أيام الطفولة!
رلى موفّق
الرّجاء أريد معرفة إسم الكاتب
مع جزيل الشكر لكتابته عن بلدتي دير القمر