جان دمو وتجربةجماعة كركوك الشعرية

في ستينيات القرن العشرين، وبينما كانت قصيدة التّفعيلة تقاوم التّيار الأورثوذكسي، وتتصدّى لضربات النّقد الفيودالي، من أجل كسب رهان الاعتراف، ظهرت في سياق هذا التحوُّل، تجربة شعرية أكثر تطرُّفا، سُمّيت بـ»قصيدة النثر».
وما دام المقام، هنا لا يسمح بالحديث عن هذه التّجربة الشعرية، من حيث ظُهورها، وأبعادُها، ورهاناتُها، فإنّنا سنتوقّف عند رافد مائز من ضمن روافدها المُتكثّرة، رافد لم تعره الفعالية النّقدية الرّعاية الكافية واللّائقة بها، الحديث هنا يخصُّ تجربة جماعة كركوك العراقية.
ليس من الغرابة، أن يجد الباحثُ شُحّا كبيرا في المعلومات المُتعلّقة بشعر هؤلاء الشُّعراء، أو كما يحلو للبعض تسميتهم بالصّعاليك الجُدُد. فالأُصُولية النّقدية لم تعترف بهم البتة، لسببين رئيسين، في نظرنا، الأوّل أخلاقي، يرى في خُروجهم عن المنظومة الخُلُقية القائمة، زندقة وردّة فادحتين، وجبت مُحاربتهما. والثّاني فنّي، يرى في قصيدة النثر، كائنا غريبا ودخيلا على ثقافتنا، يُعارض ميتافيزيقا القصيدة، التي اختزلت الشعر كُلّه في الوزن التّقليدي السّيمتري،، بامتداداته الأُفُقية والرّأسية.
صحيح أن هناك بعض الّدراسات النقدية، التي آثرت أن تجعل من شعر هؤلاء الصعاليك الجدد مادة لها، إلّا أنّ عددها، حسب علمي، لا يتجاوز أصابع اليدين، وهي منشورة في بعض المواقع الإلكترونية. وإذن، هناك قفز فادح على مضايق هذه التّجربة. حينما نقول المضايق، فنحن نروم الأسئلة القلقة والمُقلقة المُتحدّرة من صميم الكينونة، تلك التي تُحدثُ ألما، ليس سوى ألم الانفصال عن الأصل.
جان دُمو، سركون بُولص، فاضل العزّاوي، مُؤيّد الرّاوي، صلاح فائق، أنور الغسّاني، كُلُّهم شعراء قدموا من كركوك إلى بغداد، بحثا عن المجهول، فوجدوا المقاهي والحانات في انتظارهم. حياة مُفعمة بالعبث والفوضى واللّامعنى . هكذا تكوّنت لدى هؤلاء الشُّعراء، رؤية فنّية|وجوية كارثية (نسبة إلى النّظرية الكارثية عند رُوني طوم)، عمادُها الانقطاع والانفصال عن الأصل، في إطار ما قد يُسمّيه بعضُهم بـ»الفوضى الخلّاقة».
هم شُعراء قدموا من الهامش، وفتحوا الشعر على أراض مُغايرة تماما عمّا كان مُتاحا، من داخل مشروع «قصيدة النثر»، على الرُّغم من التّقوّلات المتربّصة بها. قصائد مختلفة، برُؤية كارثية، وسيلتٌها السُّخرية والتّهكُّم، عبر الجملة الشعرية المُسترخية، والقاموس اللُّغوي الهجين، والمشهد اليومي الأليف، الذي أصبح من دعاماتها الأساسية.
ولا بأس من أن نتوقّف قليلا عند تجربة أحد رواد هؤلاء الصّعاليك الجُدد (بالمعنى النّبيل للكلمة) من خلال نموذجين شعريين، يُمكن اعتبارُهما بيانا شعريا لهذه الجماعة. والشاعر هو جان دُمو، الذي لم يُخلّف سوى أُضمومة شعرية يتيمة، على الرُّغم من أن غلّته الشعرية، كانت غزيرة. والديوان موسوم بـ»أسمال»، صدر عن دار الأمد في بغداد 1993، تضمّن 27 قصيدة، جُلُّها بلا عناوين.
يقول الشاعر:
بالسّر يتركّزُ النّومُ
في أشدّ المناطق ناء، اقذف بغنائك
أنا أيضا كنت يوما فريسة حاجة في غضّة
ولكنّني كنت على وفاق مع مُتطلّبات الرّبيع
تعلّمت أن أكون أنا
وأن أترُك للواقع أن يتكفّل ما فسد
المسافةُ تقصُر، والحقيقةُ تتآكل
أتعجّلُ مقدم الفجر
سُقُوطي يُمتعُ
جوهر الرُّوح
لم أتعلّم أن أتغيّب طويلا
هذا المقطع، هو عبارة عن بيان للكتابة، بشكل مختلف عن المعهود في لغة البيانات، وبعُمق عرفاني ماكر. فالسُّقُوط بالثُّمالة، يُمتع الرُّوح، نكاية بالنّظام الأبُّوليني. هي دعوة لارتكاب الفداحة والفوضى في ترتيب الحياة. الفوضى هنا بالمعنى الديونيسي، أو كما يُسمّيها أدونيس بـ»فوضى الغبطة».
وبدهي جدّا، أنّ هذا العبث البُوهيمي، كان يُؤسّسُ لثقافة خارج المنظومة الخُلقية القائمة، ثقافة ديدنُها التّحرُّر من القيم والمواضعات، هادفا ـ الشاعر- من وراء ذلك، إلى العودة بالإنسان إلى حالته الأولى، حيث الحياة عارية من «خيار العقل» والفضيلة، لفائدة الظاهرة الديونيسية، في أبهى تدبير للغرائز. إنها جدلية النّفي والإثبات. نفي الكائن، وإثبات اللاممكن.
الكتابةُ بدورها، حسب هذا الطّرح، هي عمليةٌ تافهةٌ، ولُعبةٌ فارغةُ المعنى، إن هي خرجت من داخل السّياق السّوُسيو ثقافي القائم. حدث هذا، فيما مضى، مع أبي نواس، وإن بشكل مُغاير.
والشاعر جان دمو، في دفاعه، المُستقوي بمرجعيات فلسفية ما بعد حداثية،عن نُزوعه المُتطرّف إلى الفوضى والتّهكّم من الأشياء، يُشبه إلى حدّ كبير تهكُّم سُقراط من دُوغمائية الدُّوكسا، أقصد الرّأي السّائد. إن التّهكم من الواقع، هو تصريحٌ ضمنيٌ بالرّفض، وخُروجٌ صارخ عن الإجماع، ورغبةٌ مُلحّةٌ في المُغايرة. هي نزعة، ليس من شك، سيكون مصيرُها الألم، بسبب الانفصال عن الحياة الموت بالنّسبة لسقراط، وحياة التشرُّد والضّياع، بالنسبة لجان دمو. أليس التشرُّد أو التهميش، شكلا من أشكال الموت؟
يتعيّنُ وضعُ بعض الأسلاك
حول وقت الأطبّاء
والبُغاة والسّفّاحين
ولكن أينما أجّلت النّظر
ماذا يُمكنُ أن تُبصر
غير ميكانزمات الفراغ
تعملُ لأجل أن تُثبت
أنّ مفاتن البحر
ودُخان المصانع
وطقطقة أحذية الغانيات
لا فرق بينها
ورُبّما كان في هذا بعضُ الحكمة
أو قد يكُون هُو أصل العلّة.
إن الفراغ، لا يُمكن أن يُفرّخ غير الفراغ، أي النّمطية والتّشابه المميت. ومن ثمّة نخلصُ إلى أن شعرية جان دمو، شعرية تحكمها جدلية الانقطاع والبداية، الانقطاع والانفصال عن أصل طهراني، والبداية فوق أرض ليست سوى أرض الشعر المُستباحة. إنها شعرية طارئة، تنظر إلى المُعطى بعين الشّك والرّيبة، وتُؤسّسُ لبلاغة الفوضى والهدم، والعماء. شعرية، لا شكّ، صادرة عن رؤية تُجهر بالمكبوت، وتجرف كلّ السُّدُود التي تتمترسُ خلفها القيم، من أجل فتح كُوة تطل على فضاءات متحررة من القيود.
بعبارة شاملة أقول، إنها دعوة لإعادة النّظر في الثوابت المُقلّصة لحرية الإنسان. حدث هذا مع جان دُمو، لكن بكثير من الألم. ألم الانفصال عن الأصل.

٭ شاعر وكاتب مغربي

جان دمو وتجربةجماعة كركوك الشعرية

محمد الديهاجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عباس محمد عمارة:

    الاغرب من كل ذلك ،ان التيار الأورثوذكسي التعليمي مازال يهيمن على مناهج التدريس ولا يترك علامة في الإشارة الى هؤلاء العباقرة من الشعراء في مناهج التعليم المدرسي العربي.مع انهم جزء من تاريخ الشعرية العربية المعاصرة

  2. يقول الدكتورة تمارا الحسن:

    ماذا بعد قصيدة النثر: الجواب هو مايشيع اليوم المسمى ( النص الكشكولي المفتوح ).

إشترك في قائمتنا البريدية