هل ترقى التربية كقيمة جمالية إلى مستوى تقويم العلاقات الدولية؟

حجم الخط
1

بالموازاة مع حالة الاحتباس الحركي التي تقبع فيها حاليا أزمة العلاقات الدولية، رغم التحولات الكبرى التي تشهدها موازين القوى الإقليمية والدولية، والانهيارات الصاعقة المتتالية على صعيد الوعي الإنساني والمرتجعة به إلى ذلك النزوع الأول للقومية والشوفينية، كرد فعل سلبي حيال تقلص المساحات والمسافات في حركة الأشياء، البضائع والإنسان، وفشل الاندماج الثقافي بسبب التمحور حول الذات.
صار البعض يطرح فكرة إعادة تشغيل أداة النقد الإصلاحي لسلم القيم والمؤسسات، وضرورة تفعيلها بما يتيح للبشرية، على الأقل الحفاظ على ما اكتسبته من مستوى في الوعي بضرورة التعايش السلمي، الذي أعقب دحر النازية، في خضم العجز عن الارتقاء بذلك الوعي الإشكالي. وكل ذلك عبرت عنه حالة التصاعد المطرد لليمين والنزعات القومية في البلاد التي عانت منها من قبل.
في هذا الصدد تحديدا طرحت مؤخرا الباحثة السورية دارين سامو على صفحتها بموقع للتواصل الاجتماعي فكرة للنقاش، دبجتها في الأول بانتقاد صريح لقضية تطور العلاقات الدولية التي صارت تفرض منطقها على القوانين الدولية، وتدعو (دارين) إلى إعادة ترسيخ الوعي السلمي من خلال أنظمة التربية وتنشئة الإنسان.
هذه الفكرة تدعونا حتما إلى تفكيك عناصر الإشكال المشتبكة بحيث يصبح عسيرا فهم طبيعتها ككتلة واحدة، ولعل أول ما يقتضي تناوله بمعزل عن العناصر الأخرى بوصفه يمثل حجر الزاوية في الإشكال هو الدولة، التي أضحى مفهومها يتلاشى بفعل تغول قوة «الإنسان الاقتصادي» الذي بات أولى من «الانسان المواطن»، وصار النشاط الاقتصادي الحر بديلا لسلطة الدولة غير الرمزية، وهذا واضح من خلال الحاصل من القوة التي صارت تتمتع بها الشركات متعددة الجنسيات ذات السلطان العابر للحدود والغادي في التوسع، إلى درجة ان سلطان هذه الشركات فاق سلطان الاقتصادي والسياسي في الكثير من الدول، بل وجد موطئ قدم له داخل غرف صنع القرار الوطني فيها، عبر أعوانه لكنه يتم في منظومة حكم الدولة الوطنية ذاتها من مؤسسات تسييرية ومشرعة للقوانين، وهذا الحكم المستتر بضميره وحركيته، تحول إلى خطر على القطريات والدوليات في شطرنج العلاقات، طالما أنه يلبس لباس الدولة ويفكر ويعمل بمنطق اللوبي العصاباتي.
طبعا أهم ما حافظت عليه سلطة الشركات متعددة الجنسيات بعد أن تحولت إلى حكومة عالمية موازية في دواخل الأقطار للحكومات الوطنية الكلاسيكية، مذ سيطر القطاع الخاص بقوة الابتزاز المصرفي العالمي، والاحتفاءات النخبوية التي حظي بها بوصفه نهاية للتاريخ وفق ما طرحه فوكو ياما، هي الأطر الرمزية التي لا تتجاوز في أبعادها الكبرى شكل الخطاب والرومانسية الانتمائية، ويتم ذلك عبر مؤسسة إعداد الانسان المواطن، في ظل تخفي الانسان الاقتصادي. فكل الخطابات التنشيئية الوطنية سواء على مستويات الفكر والثقافة والتعليم، تحض وتحرص على إعادة إنتاج الخطاب السلمي والحلم البشري في العيش الآمن المشترك، والغد المنزوع السلاح، ونهاية القوميا والاديان، هاته الأخيرة التي تظل أفضل مثل يستدل به على الانفصام البنيوي الحاصل بين الخطاب والممارسة في الانبساط الواقعي، إذ يجمع كل أهل الديانات وساسة العالم، على أنها جميعها تدعو للمحبة والسلام، في حين تتجلى حقيقة التوظيف الديني من خلال القراءات التأويلية لنصوصه القابلة لقولبة وشيطنة الآخر، والتأكيد على استحالة التكامل معه، وهو ما أوقد ولا يزال نيران حروب تختلط فيها العقيدة بالتاريخ بالمصلحة.
فوفق ما سبق من تصور اذن، فإن أزمة العلاقات الدولية باتت حقا أزمة، ليس على المجتمع الدولي فيما بين اقليمياته المتنوعة والمتضامنة على أسس اقتصادية وقومية واجتماعية فحسب، بل صارت كذلك داخل القطر الواحد، فإذا سلمنا جدلا بتلاشي جهاز الدولة في بعده السلطوي القائم على التعاقدية كأساس للمواطنة، وهذا تحت وطأة تضخم سلط الشركات متعددة الجنسيات عبر هيمنة الاقتصاد على السياسة كعنوان للمنقلب العالمي المسمى بالعولمة، فإن التجمع القطري المبني على ثنائية الخوف والأمل، كنظرية حكم لبلوغ الالتفاف حول الذات القطرية، الخوف من استهداف الآخر والأمل في مستقبل قطري أزهى وأكثر تطورا، يغدو بلا معنى، وأي قوى خطابية تعبيئية تظل غير قادرة على جعله يعيد إنتاج نفسه.
والمشهد هو الآن حي في دول الربيع العربي التي فاقت أزمتها في هذا الاطار أزمة العلاقات الدولية، فأزمتها زيادة على كونها تداعيا لازمة عدم التغيير الحقيقي الذي يتوجب حدوثه في منظومة العلاقات الدولية ونظامها العالمي، وفق المستجد الإنساني والتغييرات التي لا تفتأ تحصل على الصعد الاقليمية من بروز لقوى جديدة وانهيار أخرى، فقد كانت ضحية جمودها الداخلي وعدم تغييرها على المستويين الخطابي والممارساتي معا، فجميع الدول العربية هي متغيرة على مستوى السلوك غير المؤسسي وغير القانوني، عبر الولاء للعديد من مسؤوليها لإرادة الشراكات متعددة الجنسيات وارتباطهم الوثيق والمستتر بها، عبر تمكينها من الخيرات من باب تشجيع الاستثمارات الخارجية مقابل جني العمولات من وراء ذلك، في الوقت نفسه يستمر الخطاب الوطني البالي في ترديد نظريتي الخوف والامل للحفاظ على حظيرة الوطن.
هنا يقف السؤال الأخطر دونما جواب بخصوص مستقبل البشرية في ظل التشعب الاستشكالي الذي أفرزته العلاقات الدولية في لحظة تلاشي وبداية انهيار سلطة الدولة الكلاسيكية في العالم، وهل بات ممكنا أن تلعب بقايا هاته الدولة دور المنقذ لها بوصفها وحدة أساسية في النسيج الشبكي للعلاقات الدولية عبر مؤسساتية انتاج المعنى وتنشئة «الانسان المواطن» كالتربية والتعليم كي يعاد الوعي الوردي بضرورة السعي الدائم للسلام والأمن العالميين، ونبذ الفرقة القومية والثقافية والدينية مع الحفاظ على مبدأ التعدد والاختلاف والتنوع؟
إذا سلمنا جدلا بالانزياح الكبير للتصارعية الدولية عن خط الدم الذي تحقق عقب اندحار النازية، وشروع التاريخ في الاستواء والاستقامة على جانب جمالي من المخيال الإنساني، بحسبان السلام والأمن قمة الجمال، الذي رأى دوستويفسكي أنه المنقذ للبشرية والعالم، فإن السؤال الذي يظل يفرض نفسه ما الذي أبطل مفعول الجمالية اللحظية تلك؟ بيار رابحي الفيلسوف الفرنسي رأى أن البشرية راكمت تراثا جماليا كبيرا، على كل نطاقات الفنون، موسيقى، رسما، أدبا ولكن كل ذلك لم ينقذها على حد افتراض دوستويفسكي.
وأفضل ما يمكن أن يؤكد ما ذهب إليه رابحي في معرض نفيه لصحية فرضية دوستويفسكي، تجربة توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الاسبق الذي كان مشواره الدراسي ملازما لمشواره الفني كعازف في فرقة موسيقية بالجامعة وفور تحوله للسياسة نبذ الجمال خلف ظهره إلى أن وصل حد قتل مليون عراقي من أجل آبار نفط تخدم مصالح بلده القومية. الإشكال هو أن القيمة الجمالية والخيرية تظل فردانية منزاحة كلية عن كل ما هو جمعي يستجدي شحذ قوة الجماعة، باعتبارها صمام أمان والهيمنة على سبل العيش والرفاهية المشتركة، لذا كانت السياسة دوما نقيض النوايا الحسنة عبرت عنها بالحروب التي وصفت بأنها سياسة بوسائل أخرى.
الخلاصة هي أن المشترك الإنساني يظل ناجزا خطابيا وغير ذلك على مستوى الممارسة، طالما أن الانشطارية التي أسست للمعرفة الحضارية الراهنة وفق أسس مادية صرفة، تفصل بين ما هو سياسي وما هو معرفي، الروحي والمادي، الجمالي والنفعي والخطابي والممارساتي، ظلت قائمة، فالتربية والتنشئة الإنسانية في واد وصراع البقاء في واد آخر.
كاتب وصحافي جزائري

هل ترقى التربية كقيمة جمالية إلى مستوى تقويم العلاقات الدولية؟

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حاتم المصمودي -تونس:

    يذكرني كلامك الكبير بمثل بسيط استحضره لدعم ما قلت وهو النار ولا الاستعمار عن قضية نهب اموال الشعوب عبر قرون وتواصل ذلك الى عجز هذه الشعوب عن استخلاص حقوقها القانونية والشرعية بسبب بعدها عن المطالبة بحقوقها التاريخية والحاضرة والمستقبلية الناتجة عن عجز وضعف النخبة المغرر بها و قصورها عن ايجاد اليات استرجاع المغتصب و تواصل قابلبة الشعوب للاستحمار و بالتالي ضياع المقدس.

إشترك في قائمتنا البريدية