بعد تقديمه أوراق اعتماده للرئيس التركي عبد الله غل، عام 2013، قال السفير الروسي أندريه كارلوف إنه يحمد الله على أنه عيِّنَ في تركيا وليس في سوريا. غير أن شرارات الحرب السورية ستلاحقه إلى أنقرة، ليقتل بإحدى عشرة رصاصة انطلقت من مسدس شرطي شاب من «القوة الفولاذية»، وسط جو من المرارة والإحباط في الشارع التركي بسبب مأساة مدينة حلب.
قبل عملية الاغتيال بيوم واحد، كتب المؤرخ التركي الشهير إلبر أورتايلي مقالة في يومية «حرييت» اختار لها هذا العنوان: «كيف سننظر في وجه حلب؟» في تعبير مكثف عن الشعور التركي بالعجز أمام مأساة مدينة تعني الكثير للأتراك، في الحقبتين العثمانية والجمهورية على السواء. ربما أكثر لفتاً للانتباه من العنوان ذاته، جملة وردت في متن المقالة في صيغة سؤال: «كيف يمكننا عدم نسيان حلب؟» كأنه كان يستجيب، بصورة استباقية، لنداء الشرطي القاتل مولود آلتنتاش «لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا». وإن كان جواب المؤرخ السبعيني بعيداً كل البعد عن عملية اغتيال ثأرية، فقد قال إن عدم النسيان يمكن أن يتمثل بلعب دور فاعل في إعادة بناء المدينة.
الواقع أن الرأي العام التركي كان في حالة غليان أمام هول ما يحدث في حلب، سواء حين سيطرت الميليشيات الشيعية الموالية للنظام الكيماوي على أحياء حلب الشرقية تباعاً، حيث استفردت بالمدنيين، بعد انسحاب الفصائل المسلحة، فنكلت بهم وقتلت الكثير منهم بأبشع الطرق كالحرق أحياء، إضافة لمن تم قنصهم أثناء نزوحهم باتجاه الأحياء الغربية، أو حين تم حشر من تبقى من السكان والمقاتلين في بقعة ضيقة، وأصبح خروجهم آمنين حلماً مرتجى تعرقله إيران علناً باحتجاز القوافل الخارجة وقتل بعض من فيها.
بلغ هذا الاحتقان حد بكاء مقدمي بعض برامج التلفزيون على الهواء مباشرةً، حين يدور الحديث عن حلب، في الوقت الذي كانت الحكومة التركية فيه ناشطة على خط التفاوض مع موسكو لإجلاء من تبقى من المدنيين، وتقديم «النجاح» في تلك المفاوضات وكأنه انتصار للدبلوماسية التركية، في حين يعرف القاصي والداني أن تركيا كانت تقدم مخرجاً للروس من وحل ارتكاباتهم وارتكابات حلفائهم الإيرانيين على الأرض، ليتم تقديم التهجير القسري في أمبلاج «العمل الإنساني».
يسهل، في هذا الجو المحتقن الذي تفجر على شكل مظاهرات عديدة أطلقت فيها شعارات «بوتين القاتل» فهم دوافع الشاب التركي المنحدر من بيئة فقيرة من محافظة «آيدن»، حين اندفع لقتل السفير الروسي بوصفه ممثل الدولة التي تقتل «الشعب السوري المسلم المظلوم» في حلب وعموم سوريا. وذلك بعيداً عن نظريات المؤامرات الاستخبارية الدولية أو إلصاق التهمة بجماعة فتح الله غولن التي لم تترك الحكومة وبيئتها الموالية شراً وقع، في السنوات العشرين الأخيرة، إلا وألصقته بها. فمن أسقط الطائرة الروسية هم طيارون تابعون لغولن، ومن قتلوا الصحافي الأرمني هرانت دينك، في 2007، هم جماعة غولن، ومن أسقطوا طائرة الهليكوبتر التي كان يستقلها الزعيم السياسي القومي محسن يازجي أوغلو، قبل سنوات، هم جماعة غولن، ومن قتلوا المتظاهرين في ثورة منتزه غزي كانوا من جماعة غولن، والتيار العلماني المخاصم للحكومة ممول من جماعة غولن.. إلخ. الخط الآخر لتحليلات الإعلام الموالي يركز على الخلفيات الاستخبارية الدولية المحتملة لعملية الاغتيال، من غير استبعاد جماعة غولن التي هي، على أي حال، مجرد بيدق في يد الغرب (أمريكا بخاصة) الذي يعمل بلا كلل على تقسيم تركيا، وفقاً للهذيانات البارانوئية المألوفة في تركيا. رئيس تحرير صحيفة «يني شفق» الأشد ولاءً للحكومة، إبراهيم قراغول المهووس بالتحليلات الاستراتيجية المتخيلة والمؤامرات الأمريكية ـ الصهيونية، حذر في افتتاحيته من القوى الشريرة التي تقف وراء عملية اغتيال السفير الروسي، وأن هدفها هو ضرب التقارب التركي ـ الروسي ـ الإيراني الذي يعمل على وقف الحرب في سوريا (!)، من أجل إدامة تلك الحرب التي يتمثل هدفها في تفكيك كل من تركيا وإيران وروسيا حسب زعمه، بعدما نجحت في تفكيك سوريا والعراق!
غير أن وضوح الدافع الشخصي المحتمل للقاتل آلتنتاش (فورة دم من أجل حلب وسوريا)، يجب ألا يدفعنا لاستبعاد احتمالات أخرى تتضمن وجود جهة حرضت الشرطي المحتقن ودفعته إلى ارتكاب جريمته. ذلك أنه ثمة مؤشرات إلى عمل مخطط له بدقة على مدى أيام، كاستئجاره غرفة في فندق قريب من المعرض الفني الذي قتل فيه السفير الروسي، قبل نحو أسبوع، وحصوله على إجازة من مكان عمله، واستخدامه لمسدس شخصي لا مسدسه الرسمي الخاص بعمله، وإشهاره لبطاقته المهنية عند الدخول إلى صالة المعرض. كل ذلك مما يحسب في خانة العمل المخطط له بصورة مسبقة. ولكن كل النبش في تاريخه الشخصي، واعتقال جميع أقربائه المباشرين والأبعد، لم تؤكد، إلى الآن، ارتباطه بأي شبكة إرهابية أو بجماعة غولن. بل أكثر من ذلك: فقد بدأت حياته المهنية في سلك الشرطة، بعد التصفيات الكبيرة فيه لأتباع غولن، في أعقاب فضيحة الفساد الحكومي، كانون الأول 2013. ففي تلك الفترة تمت تصفيات كبيرة لكل من يشتبه بعلاقته مع جماعة غولن من سلك الشرطة، ليتم استبدال كوادر جديدة بهم من المفترض أنهم من البيئة الموالية للحكومة.
المؤشر الأبرز في دوافع الاغتيال، يبقى إذن جو الاحتقان الشديد في الرأي العام والتحريض الذي مارسته وسائل الإعلام، والموالية منها بخاصة، تحت أنظار الحكومة وبرضاها الضمني. الواقع أن الحكومة التركية تعيش، منذ عودة العلاقات الإيجابية مع موسكو، حالة من التمزق الوجداني إذا صح هذا التوصيف. فهي مرغمة على أن تكون واقعية في علاقتها مع روسيا في الموضوع السوري، لكنها تجد صعوبة في ابتلاع مرارة متطلبات هذه الواقعية بعد سنوات من سياسة التدخل التركي النشط في سوريا بهدف إسقاط النظام. وتجلى هذا التمزق الوجداني، قبل فترة، في ذلك التصريح الغريب للرئيس أردوغان الذي قال فيه إن الهدف الوحيد من عملية درع الفرات هو إسقاط الطاغية بشار الأسد، وتراجعه عن كلامه، بعد يومين، بنتيجة الضغط الروسي الذي طالبه بـ»توضيحات». لكن جو الاحتقان الذي بلغ حد تحريض أستاذ جامعي ضد علويي تركيا بسبب ما يحدث في سوريا، لا يستبعد تماماً فكرة استثمارها من قبل أجهزة استخبارات دولية لتنفيذ مخططاتها بواسطة شخص محتقن. ولعل عرقلة إيران العلنية لعملية إجلاء المدنيين من شرقي حلب، على الضد من إرادة موسكو، تعطي مؤشراً. والأجهزة الإيرانية لها سوابق عدة في الاغتيالات على الأراضي التركية.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي