بمحض الصدفة سمع الشاب، الذي يبدو في أواخر العشرينيات من عمره، طرفا من حديث جرى في إحدى ضواحي تونس العاصمة، فقال لي: «هذه أول مرة في حياتي أسمع هذا الكلام. هل صحيح أن قد أتى على تونس حين من التاريخ الحديث خضعت فيه للاحتلال الإسباني؟!» كان الشاب صادقا. ليس من الأمّيين. فهو متعلم وله دبلوم في أحد التخصصات التقنية. وليس من العاطلين، أو «المعطّلين» عن العمل، كما يقال في تونس. فهو من المنعّمين بوظيفة ثابتة تكفل حفظ الكرامة وإعالة الأسرة. وتمثل عبارة «المعطّلين عن العمل» الشائعة في البلاد حالة من حالات عدم الدقة اللغوية التي لا تجد تفسيرها في منطق التداول اللساني، وإنما في منطق الوعي الإيديولوجي. وقصة هذه العبارة تشبه قصة «مجلس نواب الشعب» التي عوضت، في تونس، «مجلس النواب» السائدة في معظم البلدان.
إذ إن استخدام عبارة «المعطّلين»، بدل العاطلين، عن العمل ينم عن تصور للعلاقات الاجتماعية محكوم بمنطق «المظلومية» بل وربما حتى بنظرية المؤامرة. ذلك أنه يقتضي التسليم، وليس مجرد الافتراض، بأن وظائف العمل متاحة فعلا، ولكن هناك سلطات قائمة، أو قوى خفية، قررت حرمان الشباب من الظفر بها، بحيث لا يصير هؤلاء عاطلين عن العمل بحكم الأوضاع والظروف، وإنما يصيرون معطّلين بفعل فاعل سياسي أو سلطوي. أما المسلّمة الأخرى التي قد تكون بديلا، كما يمكن أن تكون تكملة، للمسلّمة الأولى فهي أن الشباب معطّلون ليس لأن أصحاب السلطة وذوي المصلحة حكموا عليهم بالتعطيل، بل بسبب عجز ما يسمى في تونس «منوال التنمية»، أي عجز النموذج الاقتصادي العام، عن تحرير الطاقات وخلق الثروات وإعداد «سوق الشغل» لاستيعاب عشرات الآلاف من الشباب الذين يتخرجون كل عام من الجامعات ومؤسسات التدريب والتأهيل المهني.
واللافت للنظر أن أعرق البلدان في الحداثة الاقتصادية، مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، قد شهدت جميع الأزمات البنيوية الملازمة للرأسمالية بهزاتها وآلامها وضحاياها وعرفت جحافل من ملايين العاطلين عن العمل، خصوصا في فترة «الكساد العظيم»، ولكن الخيال اللغوي عند نخب هذه البلدان وشعوبها لم يبلغ من التجنيح، كما أن الوعي الإيديولوجي عندها لم يبلغ من المظلومية، درجة اتهام النظام السياسي أو الاقتصادي بتعمّد تعطيل العمال والشباب. صحيح أن النموذج الاقتصادي في معظم البلاد العربية عاجز عن مواجهة التحديات ليس منذ اليوم فقط، بل منذ السبعينيات. وصحيح أن انعدام روح المسؤولية عند كثير من الساسة يجعلهم عديمي الشعور بما يقاسيه الملايين من شباب أوطانهم، وأن امارات اللامبالاة والبلادة عندهم صارت من السفور والافتضاح بحيث لا ينفع في إخفائها أي مكياج. وقد حق لأحمد فؤاد نجم عندما سئل، قبل أعوام، على قناة الجزيرة عن رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف أن يستفسر بكل براءة: «هو الأخ نظيف ده مصري؟!». صحيح أن منوال التنمية العربي ينتج العطالة والانسداد إنتاجا. ولكن الأمر لا يتعلق بقرار أو مؤامرة. وإنما هي رداءة مستوى الفئات الحاكمة وعدم جدارتها بإدارة أصغر المؤسسات، ناهيك عن دول تحصى شعوبها بمئات الملايين.
نعم تعرضت السواحل التونسية للاحتلال الإسباني طيلة 39 سنة بسبب تناحر الحسن الحفصي، أحد آخر أمراء الدولة الحفصية (التي أسست عام 1229 ونشأ العلامة ابن خلدون في كنفها في القرن 14)، مع أخيه رشيد على الحكم. حيث أن استنجاد الحسن بملك الإسبان كارلوس الخامس قد أوقع البلاد في احتلال بدأ عام 1535 ولم ينته إلا بقدوم الأتراك، عام 1574، وبدء العهد العثماني الذي استمر حتى قدوم الفرنسيين عام 1881. لم يكن الشاب على علم بهذا «التفصيل» الذي لا تفصلنا عنه سوى بضعة قرون. ومع هذا فكلّما تجددت المحاورات مع المثقفين التونسيين تجدد التعبير لدى معظمهم عن الحسرة الناجمة عن لامبالاة عموم التونسيين بتاريخ البلاد قبل الفتح الإسلامي، حيث يبدو أن قد امّحت من الذاكرة الشعبية ألف وخمسمائة عام كاملة من الحضارات الأمازيغية والقرطاجنية والرومانية والبيزنطية التي أنجبت أمثال يوغرطة، وأميلكار، وحنبعل، وماسينيسا، وتيرنس، وماغون والقديس أوغسطين.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
هذه معضلة تاريخية نعاني نحن منها جميعا، في الصراع على فلسطين والاستحواذ على تاريخها استفادت منه الحركة الصهيونيةً كثيرا من اتخاذ الفلسطينيين والعرب عموما من الفتوحات الاسلامية نقطة البدء في النظر الى تاريخهم ، في العلاقة مع المكان وجدت المسيحيين العرب اكثر وطنية اذا جاز التعبير لانهم يرجعون في تاريخهم الى ما قبل الفتوحات الاسلامية ، الى القبائل العربية المناذرة والغساسنة في بلاد السام ووادي الرافدين الذين اعتنقوا المسيحية
حفظت روايات التاريخ المتواترة عن الاحتلال الإسباني لتونس ـــ على قصر مدته ـــ أن عدوانيته الحضارية وتنكيله بالأهالي قد بلغا حدا لا يوصف من الانتقام والتوحش. من ذلك أن المحتلين قد اتخذوا من جامع الزيتونة المعمور مربَضا لخيولهم، وحرّموا على أهالي البلد اتخاذ السكاكين في مطابخهم خشية استعمالها أسلحة للمقاومة، فكانوا يجعلون لكل رَبْض (أو حارة) سكينا واحدا محروسا، يشدونه إلى أحد الجدران بحبل وثيق، ويلزمزن جميع أهل ذلك الربض باستعماله لشؤونهم المنزلية بالتداول.
أظن مشكلة الأمازيغ في المغرب العربي لا تختلف كثيرا عن مشكلة الأكراد في المشرق العربي، حيث كل منهما، درجة الاختلاف فيما بينهم وبين بعض، شديدة الاختلاف أكثر من مشكلة العرب والفرس، حيث هم من البؤس لم يجمع أيّا منهما حتى الآن، على استخدام حروف أي لغة لتمثيل لغتهم، حتى تستطيع العولمة وأدواتها التقنية اعتمادها من بقية لغات الإنسانية، وقد عرفت ذلك من خلال الممارسة العملية، بسبب عملي المتخصص بالآلة واللغة والإنسان في تايوان منذ عام 1989، فقد طُلب مني صناعة قاموس كردي إنجليزي إليكتروني، بعد احتلال العراق عام 2003، أنا رفضت أن أنتج أي شيء لا يحو كذلك اللغة العربية، في كل ما يتعلق بالأكراد في شمال العراق، وأصررت على ذلك، بعد أكثر من عام عاد نفس الشخص، ووافق على شرطي بقبول إنتاج القاموس الإليكتروني بثلاث لغات، وعندما بدأت العمل عرفت سبب قبول شروطي، لعدم وجود أي مصنع لديه ما لدينا من تقنية لغوية، نستطيع فيه تجاوز احتكار عمالقة التقنية مثل مايكروسوفت وأبل، كي نستطيع تجاوز مشاكل ما توفره من تقنيات تحوي الترميز المعتمد لحروف كل لغات العالم فيما يعرف بـ (يونيكود) حيث هناك عدة حروف كردية لا يوجد تمثيل لها فيها، ولذلك لم يستطع أي مصنع توفير قاموس إليكتروني كُردي إنجليزي، ولكن بسبب أننا عملنا كل التقنيات الخاصة بنا بخصوص اللغة إن كان ما يتعلق بلوحة المفاتيح أو الحرف أو الكلمة أو الجملة، وهذا وفّر لنا مرونة لغوية لا تتواجد لدى أي شركة أخرى في العالم.
بالأمس العولمة وأدواتها التقنية، وبرنامج الاقتصاد والناس على قناة الجزيرة أنتج حلقة بعنوان (جمنة.. اقتصاد تكافلي تونسي يُثير الاعجاب والجدل) توضح بمثال عملي إشكالية عقلية العالة للموظف، وأنها السبب الرئيس في أن شبح الإفلاس يلاحق النظام البيروقراطي لدولة الحداثة في شقه الاقتصادي الرأسمالي بعد انهيار نظام الديون الربوي عام 2008 كما انهار النظام الاقتصادي الاشتراكي والشيوعي عام 1991، ممثلة في الخبير الاقتصادي الذي طلب البرنامج رأيه لتقييم التجربة، فتجد بسبب عقلية العالة (على ثقافة فرنسا) رفض الاعتراف من أن هذا انجاز ومبادرة تونسية خالصة، كانت هي الأفضل في الوصول إلى حلول لفساد النظام بسبب خبرتهم العملية، وبدل أن يُعينهم النظام، كان النظام البيروقراطي محتار لعدم وجود نص، يمكن أن يستند إليه أي موظف كي يرفع عن كافله مسؤولية المحاسبة القانونية؟!