الأحداث الكبيرة والمآسي المفجعة التي تجتاح المجتمعات العربية منذ بضع سنين، لا يمكن إلا أن تؤدي إلى ضعف التركيز والتشتت في ذهنية الإنسان العربي.
فهو يجد نفسه منشغلا بأهوال مثل الممارسات غير العقلانية لما يسمى بالخلافة الإسلامية في العراق وسوريا، أو مثل البربرية التي تتفنن في ممارستها شتى الجماعات التكفيرية الجهادية العنفية، في كثير من بقاع الوطن العربي، أو التحسر على خراب ودمار أبهى المدن العربية، التي كانت عبر القرون رمزا للعمران والتحضر، أو مثل الحقارات التي تمارسها السلطة الصهيونية بحق الشعب العربي الفلسطيني والتدخلات الاستعمارية التي تستبيح استقلال وثروات الوطن العربي.
لكن كل تلك الأهوال والفواجع المتنامية، ما هي إلا عوارض لأمراض خطرة متجذرة في الكيان العربي، ولذلك فالانشغال اليومي بتحليل تلك العوارض والاختلاف حول تفاصيلها والتعبير عن الغضب الشديد تجاه إسقامها لأمة العرب المنكوبة يؤدي، كما قلنا، إلى التشتت في الذهن، أولا بسبب الانتقال اليومي من موضوع عارض إلى موضوع عارض آخر، وثانيا بسبب الانشغال الشديد عن تسمية الأمراض المسببة للعوارض وعلاجاتها المطلوبة. ما يحدث في أرض العرب في هذه المرحلة التاريخية الحرجة هو عوارض لواحد من ثلاثة أمراض مستعصية.
أولا، هناك مرض التمزق السياسي الإقليمي القومي العربي، متمثلا في سقم وقلة حيلة وتخبط الجامعة العربية وتهميشها شبه التام من قبل القوى الخارجية من جهة، وأيضا من قبل الصراعات والمماحكات العبثية في ما بين أنظمة الحكم العربية من جهة أخرى. تجري يوميا مداولات واجتماعات، وتتخذ قرارات مصيرية، بشأن الأوضاع في سوريا وليبيا واليمن والعراق، والإرهاب الدولي وتعقيدات ظاهرة هجرة الملايين من العرب إلى الخارج غير المرحب بها، أو المعادي لها، لكن الإنسان العربي لا يسمع جملة واحدة مفيدة عن رأي الجامعة العربية، أو الدور الفاعل الذي تلعبه. إن تهميش الجامعة العربية أصبح كارثة ومرضا له أعراضه الكثيرة. هذا الغياب الفضيحة للتضامن القومي العربي، بحدوده الدنيا، سواء على مستوى الجامعة العربية الرسمي، أو على مستوى التنسيق والعمل المشترك في ما بين قوى المجتمع المدني العربي النضالية، هو المرض الذي سمح لقوى الخارج ولقوى الإقليم وللكيان الصهيوني في أن يحيلوا الأرض العربية إلى خراب وبكائية حقيرة.
ثانيا، هناك الاصرار المرضي التاريخي عند سلطات الدولة العربية الوطنية، إلا من رحم ربي، على ابتلاع مجتمعاتها ومنعها من ممارسة دور ديمقراطي ذاتي وتشاركي في مواجهة تلك الأهوال. بينما يسمح لأي قوى مجتمعية انتهازية أو فاسدة أو ثرثارة مظهرية، بأن تتواجد في الساحات السياسية أو التشريعية أو الإعلامية، طالما أنها تتصرف كتابعة أو منافقة أو سلبية أو متعايشة مع الجحيم الذي يحياه العرب.
ثالثا، هناك المرض المستفحل المزمن المتمثل في التخلف الثقافي العربي، الذي له تأثيراته البالغة على ما يجري حاليا في الأرض العربية. وبالطبع هذا موضوع مترامي الأطراف، وما يهمنا هو الإشارة إلى الجزء المتعلق بجحيم الجهاد التكفيري المتوحش الذي تعيشه الأمة حاليا. ذلك أن المنطلقات الفكرية لظاهرة الجهاد تلك، والقدرة الهائلة التي تملكها لإقناع وتجييش الألوف من الشباب الجهاديين الانتحاريين، تعتمد على ثقافة فقهية امتلأت عبر القرون بأفكار وأقوال بالغة التزمت والتخلف، الأمر الذي يجعلها غير صالحة لهذا العصر، وبالتالي بحاجة إلى تنقيح وإعادة نظر. فاذا أضيف إلى ذلك ما لحق بحقل الحديث من دس وإضافات لأسباب سياسية أو لإيجاد تبريرات لتصرفات هذا الحاكم أو ذاك أو لترجيح كفه هذا المذهب أو ذاك، فإننا امام مهمة ثقافية كبيرة لمراجعة علوم الأحاديث النبوية من جهة، وعلوم الفقه من جهة أخرى، وتنقيحها من الغث الذي يجعلها قابلة للاستعمال السيئ والانتهازي واللاعقلاني من قبل شتى فرق الجهاد التكفيري.
المطلوب من تلك المراجعة هو العودة إلى القرآن بعد أن غيب وأبعد، لأسباب كثيرة، عن مسرح الحياة الدينية عبر القرون. عودة القرآن، كميزان ومرجعية وحكم، ستظهر كماَ هائلا من التلفيق والأخطاء لحق بالتراث العربي الإسلامي. المطلوب أيضا إرجاع الوهج لاستعمال العقل والمناهج العقلانية إلى ساحة الثقافة الإسلامية بعد أن نجح المتزمتون والمتخلفون عبر القرون في إبعادهما عن مسرح الفهم الديني. والمطلوب أخيرا إيجاد فصل تام وواضح بين ممارسة الطائفية المتزمتة المنغلقة وبين سماحة التعددية في الاجتهاد وفي قراءة مقاصد الدين الكبرى. كمثال على ما نعنيه من أهمية للمراجعة ما وضع على لسان النبي الكريم الإنساني المتسامح: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى». أمام مثل حديث كهذا منسوب إلى رسول الإسلام، الذي يتناقض كليا مع الوحي الإلهي العادل الرافض لأن تزر وازرة وزر أخرى، هل نستغرب أن نرى ونسمع ما يفعله «داعش» وأخواته بحق الأبرياء من المسيحيين في العراق وسوريا؟
مراجعة الجزء الديني من الثقافة العربية، سيكون مدخلا كبيرا ومفصليا لمراجعة الثقافة العربية برمتها، وتصحيح ما علق بها من تشويهات عبر الحقب التاريخية الطويلة. باختصار، فإن ما يشاهده الإنسان العربي يوميا من أحداث مفجعة جسام لا تخرج عن أن تكون عارضا من عوارض الأمراض الثلاثة التي تفتك بالجسم العربي في مرحلتنا التاريخية الحاضرة. الخروج من أي أمراض هو بمعالجتها وإزالة أسبابها، وليس بمعالجة أعراضها.
كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو