غريب ووردتان

حجم الخط
1

انتبه سكان الحي لدخول سيارة غريبة بين بيوتهم، لم يلتفت سائقها إلى أحد، بل ترّجل بهمّة وتناول رفشاً من صندوق سيارته وكيسين أسودين في كل منها قلمُ جوريٍ شائك يُخفي وردة على وشك البزوغ.
تقدم بخطى ثابتة ودخل الحديقة، وبالضبط تحت شرفة البيت الجميل الذي سافرت صاحبته قبل أيام، حفر حفرتين وزرع الجوريتين، وأهال عليها التراب على مهله، ثم عاد إلى السّيارة وأحضر جالون ماء وسقاها.
أحد الجيران المعروف بفضوله تقدّم من الرجل الغريب وسأله: هل هي التي أوصتك بزرع هاتين الوردتين؟
ـ من هي؟
ـ صاحبة البيت
ـ لا.. لم يوصني أحد
ـ إذن لماذا زرعتها هنا؟
ـ ماذا يهم! إنه ليس سوى ورد، هل يضايقك الورد؟
ـ لا يضايقني، ولكن صاحبة البيت لم تطلب منك أن تفعل هذا في حديقتها.
ـ وما الذي يضايقك أنت؟
ـ إنها مسافرة وأنا جارها وقد أوصتني على بيتها
ـ جيد جدا.. أنا لن أدخل بيتها حتى لو كانت هنا، كل ما أريده هو زرع وردتين في الحديقة…أي حديقة.
ـ ولماذا هنا بالذات؟
ـ ليست سوى صدفة، التفتُّ حولي فرأيت موقعاً جميلا لزراعة الجوري.
رد الرجل محاولاً تخفيف حدة لهجته «ولكن الأشتال الجديدة تحتاج إلى من يسقيها، وأنا مندهش حقاً كيف تدخل حديقة امرأة مسافرة وتزرع ورداً بدون إذنها.
ـ غريب أمر هذا البلد، تسترقون النظر إلى نوافذ جيرانكم وغرف نومهم وتغلقون الطرق وتحفرونها، وتدقون فيها أوتادا وجدرانا، وتلقون نفاياتكم في الأمكنة العامة وتثيرون غبارا وضجيجاً، وتلوّثون الجدران بالملصقات والشعارات والدعايات، كل هذا بدون إذن أحد، وفقط زراعة الورد هي التي تحتاج إلى إذن عندكم.
ـ ولكن صاحبة البيت مسافرة وعودتها قد تتأخر، وهذا الورد سيذبل ويموت.
عاد الغريب إلى سيارته وخاطب الرجل وهو يستدير في الساحة وينظر بالمرآة الجانبية «أرجو أن لا يمس أحدٌ الجوريتين بسوء».
في اليوم التالي كان هناك أطفال يلعبون الكرة بين البيوت، وصل الغريب في الموعد نفسه، وترجّل من سيارته يحمل جالون ماء، انحنى عليها وسقاها بروية وحنان ومضى.
عندما عاد بعد يومين التقى سيدة عجوزاً في ساحة الحي، تأمّلت ما يفعله وتمتمت.. من أنت، الجميع في الحي يتساءلون من أنت؟
ـ أنا.. أنا أحب الورد وأزرعه حيث أجد تربةً صالحة.
مرت أسابيع ثلاثة صار الغريب فيها حديث أهل الحي، فقد وصل كل يومين في الموعد ذاته ليعتني بالوردتين ويزيل الطفيليات من حولها ويمضي حتى أوشكت براعمها أن تتفتح.
عادت السيدة من سفرها فتجمّع الجيران على شرفتها لتهنئتها بالضبط في وقت الزيارة، كانوا ينتظرون وصوله كي يلتقطوا إشارة من عينيها أو لسانها ليعرفوا سر هذا الغريب. وصل الغريب كما عوّدهم، ومن نافذة سيارته لمح الشرفة المكتظة بأهل الحي، فتأكد من وجود السيدة هناك، لكنه لم يترجل ولم يدخل الحديقة.
قال الرجل الفضولي للسيدة العائدة من السفر، إنه الرجل الغريب الذي زرع في حديقتك الوردتين..هل تعرفينه؟
ـ لا أبداً، لا أعرفه، قالت السيدة ثم استدركت، ربما أكون قد رأيته في مكان ما، ولكنني لست متأكدة.
استدار الرجل بسيارته وعاد من حيث أتى تلاحقه العيون والأعناق إلى أن اختفى، وازدادت دهشة الجيران.
ـ أحقا لا تعرفينه؟
لم تجب، ولكنهم لمحوا ابتسامة خفية تحت ملامحها، وهي تنحني وتنظر من الشرفة إلى الوردتين كأنها نسيت كل ما حولها، كان زر ورد عنابي قد اشتعل من إحداها مثل قلب عاشق متفطّر، ومن الأخرى انبثق زرٌ أصفر بحياء وغيرة.

٭ كاتب فلسطيني

غريب ووردتان

سهيل كيوان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نظيره عزات ..الكرمل:

    اسعدتني القصه ..وجعلتني انسى رد التحيه فتحية عطرة عبقه تفوح من تلك الوردتين !!
    قصه جميلة رقيقه فيا حبذا نجد دائما من يفرش طرقاتنا بالورد حتى نصل الى جنة لا سفك دماء ولا هدم بيوت!
    غريبة حقا ..من هذا الرجل ؟ ومن هي تلك المراة المسافرة .؟ومن هم جيرانها ؟ولماذا الاحمر القاني والاصفر ؟
    هل هي فلسطين ؟ وهل حقا جيرانها يغارون عليها من الغريب ؟ ام انها صدفة وغيرة عابرة ؟ وهل الحب والغيرة سبب ابتسامة المرأة ؟
    ما هو سر هذا الغريب ؟ اهو الحب ؟ اهو الدين المظلوم ؟
    تساؤلات غريبة مثيرة للحيرة ..ابدا انها مثيرة للغيرة والحب والامل بان غدا جديدا سوف يولد في شرقنا الحبيب !

إشترك في قائمتنا البريدية