بضمانها لوقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 30/12/2016 بالشراكة مع تركيا، ودعوتها لمفاوضات الأستانة بين النظام والمعارضة، تكون روسيا قد وضعت كل مكاسبها الاستراتيجية في سوريا على محك الاختبار. أي مكانتها الدولية كقطب ند للولايات المتحدة، في القوة العسكرية وقدرتها على تسوية الصراعات الإقليمية على السواء.
لم تظهر، إلى الآن، اعتراضات ذات شأن من الولايات المتحدة للاتفاق الروسي ـ التركي، وإن كانت الدول الغربية ربطت موافقتها على منح هذا الاتفاق الغطاء السياسي الضروري في قرار مجلس الأمن 2336، بالتوكيد على مرجعية القرارات الدولية السابقة، جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254. وهو ما من شأنه تقييد إمكانيات المناورة أمام الروس، وإرغامهم على مسار محدد للتفاهم الروسي ـ التركي يعيد الأمور إلى نصابها، ويقوي الشريك التركي في مواجهة محور طهران ـ دمشق.
وإذا كانت الحاجة الروسية إلى مجلس الأمن، وضمناً وأساساً خصومها الغربيين، لتسويق حل سياسي تقبل به إيران وتابعهما السوري، تقيد يدي روسيا في الحل السوري، فإيران الحليفة قادرة، من جهتها، على تعطيل مسار الحل قبل نصب طاولة المفاوضات في الأستانة، من خلال إفشال وقف إطلاق النار نفسه، وهو ما يقوم به طيران النظام وميليشيا حزب الله الإرهابي في وادي بردى ومناطق أخرى متفرقة.
يمكن القول، إذن، أن «النصر» الذي حققه الروس والإيرانيون على حلب وأهاليها، تحول إلى قنبلة مسحوبة مسمار الأمان بين أيدي المنتصرين أنفسهم. فلا الروسي قادرا على المضي قدماً في حربه لخدمة النظام وإيران إلى ما لا نهاية، ولا الإيرانيون يرغبون في تسليم نصرهم العسكري لتركيا ليحوله أردوغان إلى نصر سياسي بالشراكة مع الروس. ومن حيث المبدأ ألقى بوتين القنبلة إلى حضن إيران حين اتفق مع تركيا والفصائل المسلحة للمعارضة المعتدلة على وقف النار وإطلاق مفاوضات سياسية، في غياب إيران وتابعه السوري. لكن الإيراني يعمل كل ما في وسعه لتحدي روسيا من خلال الخروقات المتكررة لوقف إطلاق النار. ولعل إرغام أحد حواجز حزب الله أربعة ضباط روس على العودة على أعقابهم ومنعهم من الوصول إلى وادي بردى بناء على دعوة من وجهاء المنطقة، لمرتين متتاليتين، لعله يشكل أكبر تحد للإرادة الروسية منذ بداية تدخلها العسكري قبل 15 شهراً.
هل إيران مرتاحة إلى هذا الحد لتغامر بالاصطدام مع موسكو، أم أنها تملك من الضمانات ما يجعلها واثقة من أن بوتين سيبتلع إهاناتها بصمت؟
الواقع أن رياح التغيير القادمة من واشنطن لا تبشر الإيرانيين بخير، وهم يدركون جيداً أن الاصطدام اليوم مع موسكو أقل كلفة من الاصطدام المتوقع مع واشنطن بعد حين ليس بالطويل. فإدارة ترامب لا تخفي نواياها في احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، وقد يكون هذا مما شجع الرئيس الروسي على الابتعاد مبكراً عن إيران في سوريا، مقابل الاقتراب من تركيا العضو في حلف الأطلسي على رغم كل الخلافات الأمريكية ـ التركية، والانتقال من دور الداعم المطلق لنظام الأسد الكيميائي في مواجهة الشعب السوري، إلى دور الوسيط والحكم بين طرفين. هذا الخيار الذي انخرطت فيه روسيا بجدية منذ شهرين من خلال المفاوضات الطويلة مع ممثلي أبرز الفصائل في المعارضة المسلحة في العاصمة التركية أنقرة قبل إخلاء حلب وأثناءه وبعده.
من المحتمل أن إيران التي وافقت مرغمة على التوقيع على «إعلان موسكو» بالشراكة مع روسيا وتركيا، تدرك أن المشاغبة على وقف إطلاق النار، وبعض الاحتكاكات الموضعية المباشرة مع الروس لن يغيرا في هذا المسار الروسي المستجد، لكنها تحاول جهدها أن تحسّن من شروط خسارتها وخسارة تابعها في دمشق على طاولة المفاوضات في الأستانة. من ذلك مثلاً تصريحات ولايتي بصدد رفض خروج ميليشيات حسن نصر الله الشيعية من سوريا، على ما في هذا التصريح من إحراج تابعه اللبناني الذي طالما تنمر على اللبنانيين بوصفه «سيداً» بالمعنيين السياسي والديني. فها هو يتكشف عن مجرد عبد مأمور لولاة نعمته الإيرانيين.
على أن تصريح ولايتي ينطوي على ما هو أهم من مجرد كشف المعروف: وهو أن مصير وجود ميليشيات الحزب في سوريا بات مطروحاً على طاولة البحث للمرة الأولى منذ إعلان انخراطه في الصراع ضد الشعب السوري. لا نعرف، إلى الآن، هل تقرر إخراجه من سوريا، ومعه سائر ميليشيات المرتزقة من الشيعة العراقيين والأفغان والباكستانيين، أم أن الأمر ما زال في طور الضغوط لإتمام ذلك. ولكن يمكن توقع أن الأمر لا يتعلق بمجرد مطالبة تركية بهذا الخصوص، بل بمطالبة روسية أيضاً، غير معلنة إلى الآن، إذا أخذنا بنظر الاعتبار التنسيق المستمر عالي المستوى بين روسيا وإسرائيل بشأن الصراع في سوريا وعليها. ومن شأن مطالبة حزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى بالخروج من سوريا أن تحظى بدعم الدول الغربية أيضاً، وهي التي تصنفه منظمةً إرهابية. هذا ما يفسر استعجال الروس لتشكيل قوة برية كبيرة تأتمر بإمرتهم تحت مسمى «الفيلق الخامس» تتشكل من سوريين موالين للنظام، وتشكل بديلاً من جيش النظام المنهار وميليشيات «الدفاع الوطني» الفالتة خارج سيطرته وتعيث فساداً وانتهاكات حيثما حلت واحتلت. ذلك أن إخراج الميليشيات الشيعية من سوريا بدون بديل يقوم مقامها من شأنه إضعاف الحرب التي لا مفر منها على تنظيم «الدولة» وجبهة النصرة وربما مجموعات أخرى إذا رفضت الانخراط في التسوية الروسية.
ماذا بشأن القوات الكردية؟
تجاهلت الاتفاقات الموقعة بشأن وقف إطلاق النار وضع القوات الكردية وما يسمى بـ«قوات سوريا الديمقراطية» تماماً، وكأنها غير معنية بكل ذلك. وإذا كانت الرعاية التركية لتلك الاتفاقات تشكل سبباً كافياً لاستبعادها منها وربما من مفاوضات الأستانة، لكن الأمر يتعدى ذلك إلى نوع من انفصال شبه كامل بين ملف الشمال السوري وملفات سائر الأراضي السورية، حيث تتداخل عوامل متنافرة، بعضها غير موجود في مناطق أخرى، في تشكيل لوحة الصراعات في شمال سوريا وشمالها الشرقي. وقبل كل شيء هناك منطقة عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة» الذي تقوده الولايات المتحدة، وقد خفت بريق عملياتها مؤخراً بمناسبة الانتخابات الأمريكية والمرحلة الانتقالية التي تلتها، بصورة متزامنة مع التدخل العسكري التركي المباشر في الجيب الحدودي الممتد من جرابلس إلى إعزاز وصولاً في العمق إلى تخوم بلدة الباب المحتلة من قبل تنظيم «الدولة».
ويتقاسم تنظيم «الدولة» والقوات الكردية مناطق واسعة من محافظة الحسكة، مع جيوب قليلة للنظام. في حين يتقاسم النظام وتنظيم «الدولة» السيطرة على مدينة دير الزور، وتتجه قوات سوريا الديمقراطية قدماً نحو الرقة عاصمة تنظيم «الدولة» في سوريا، فيما انكفأت عن التقدم نحو بلدة الباب تاركةً الميدان للقوات التركية والفصائل المسلحة المتحالفة معها، لتعزز تمسكها بمدينة منبج التي تعلن تركيا رغبتها في السيطرة عليها. هذه المناطق هي إذن مناطق «الحرب على داعش» سواء كانت بقوات كردية أو بقوات عربية مدعومة من تركيا، مع تنافس الفريقين على احتلال ما يمكن تحريره من احتلال تنظيم «الدولة» وتحول هذا التنافس إلى صراع مسلح كلما تضاربت خطوط الجبهات.
من المحتمل أن تركيا تجد الآن يديها طليقتين أكثر من السابق في حملتها على بلدة الباب المتنازع عليها، وذلك بعد وصول تفاهماتها مع موسكو إلى مستويات عالية من خلال رعايتهما المشتركة لاتفاق وقف إطلاق النار، في حلب أولاً، ثم في كل سوريا، مع استبعاد إيران وتابعه السوري. كذلك أفاد الأتراك من الفراغ المؤقت للدور الأمريكي في الشمال إلى حين اتضاح السياسة السورية لفريق ترامب. وهكذا وجدت القوات الكردية نفسها بلا سند أمريكي في مواجهة التدخل التركي، فانكفأت مؤقتاً عن حملتها باتجاه الباب، وعقدت مؤتمراً في الرميلان تخلت فيه عن اسم «روج آفا» لإقليمها الفيدرالي.
بالتوازي مع التطورات الميدانية المذكورة، عملت روسيا على إنشاء خط تفاوض منفصل في قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية بين النظام والكرد، بما يخدم التصورات الروسية للحل السياسي: فمن جهة ترضي بذلك شريكها الجديد تركيا بعدم مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في مفاوضات الأستانة، ومن جهة ثانية قد يشكل أي اتفاق بين النظام والكرد في مـفــاوضات حميميم قوة ضغط على مفــاوضات الأستانة لمصلحة النظام وروسيا، من شأنه أن يضعف موقف وفد المعارضة الذي من المفترض أن يشارك في اجتماع الأستانة.
تتحدث آخر الأخبار القادمة من حميميم عن فشل الجولة الأولى من المباحثات بين النظام والوفد الكردي بسبب محاولة الأول إملاء «خطوطه الحمراء» على الثاني. ورفض المجلس الوطني الكردي عقد أي اتفاق مع النظام بمعزل عن المعارضة السورية.
الخلاصة أن الطريق إلى الأستانة يبدو أطول بكثير وأشد تعقيداً من الفترة القصيرة التي تفصلنا عن الموعد الذي حدده الروس لبدء المفاوضات في الثالث والعشرين من الشهر الجاري. هذا التوقيت المتسرع الذي يكشف عن استعجال الروسي لجني ثمرة «انتصاراته» على سوريا، قبل قدوم الرئيس الموصوف بـ«الغموض» دونالد ترامب.
بكر صدقي