ربما تكون ذكرى ثورة يوليو المجيدة فرصة مواتية للرد على حرب الدعايات المشتعلة بين أنصار الإخوان وأنصار الجنرال السيسي، ومحاولة كل الأطراف إسقاط تلك الحقبة التاريخية ذات الزخم الكبير، على اللحظة الراهنة في مصر، إما لتوظيفها لصالح تأييد قائد الجيش وتبرير خلعه للرئيس الإخواني، بالانحياز للإرادة الشعبية ووقف الخطر الزاحف على مصر، أو لدعم مرسي والإخوان بالهجوم على الجنرالات، واعتبار أنهم يستكملون ما قاموا به في العام 1954 من الانقلاب على الديمقراطية، بعد يوليو 1952. وفي الحالتين كلاهما يزيف التاريخ، ويتلاعب بالوقائع بشكل انتهازي، في إطار رغبته في تحقيق مكسب خاص، وتوجيه ضربة لخصمه، عبر تشويش وعي الجماهير، كتوطئة للسيطرة عليها، وتوجيهها في المسار الذي يخدم مصالحه. غير أن المقاربة بين ما جرى في ’25 يناير’ أو’30 يونيو’ وبين ‘ثورة يوليو 1952′ فاسدة بكل تأكيد، ولا تستند لأية قواعد منطقية، وإن تشابه الظرف التاريخي في شقه الموضوعي من فساد واستبداد السلطة الحاكمة والتبعية الاستعمارية، وانعاكس ذلك على سوء أوضاع غالبية الشعب واحتكار فئة محدودة للثروة والسلطة، إلا أن العنصر الغائب في المعادلة، وهو الأهم الظرف الذاتي، أو بالأحرى الطليعة الثورية المعبرة عن آمال وآلام الشعب، التي لديها الرغبة والقدرة على إحداث التغيير، عبر تنظيم كـ’الضباط الأحرار’ له قيادة وأهداف محددة، عمل عليها على مدى سنوات، وكانت لديه خطة واضحة المعالم لإسقاط النظام، وإعادة بناء نظام جديد يستجيب لتطلعات الجماهير. فخروج الجماهير في يناير 2011 لم يكن منظما، وبدون جهة تقف وراءه وتحدد خطواته، وتطورت الأمور بقوة الدفع الذاتي، وبتعاطف الجماهير مع الشباب في مواجهة آلة القمع الأمنية، بعد عمليات القتل الواسعة، ثم كسرا لحاجز الخوف والجهر بأوجاعهم ومعاناتهم الطويلة، وفي الطريق سعت معظم قوى المعارضة لاستثمار هذا الحراك الشعبي الكبير، الذي لم يكن لها فضل فيه، بل ان الاجهزة الاستخباراتية بمساعدة واشنطن سارعت الى العمل على اصطناع قيادات ثورية، ومحاولة نسبة ما يجرى لها لسهولة السيطرة على الوضع، وتوجيه مسار الأحداث، وفي الأخير فضلت الاعتماد على فصيل لديه تنظيم وقواعد شعبية للإسهام في احتواء الغضب الشعبي، ومنع حدوث ثورة حقيقية. ومن هنا كان الإخوان والجنرالات، إلى جانب الصف الثاني من رجال مبارك وحزبه شركاء في الحفاظ على النظام من السقوط، وفي إجهاض ‘مشروع ثورة يناير’. وفي يونيو 2013 كان الأمر مختلفا قليلا، لكن يدور في نفس السياق، إذ أن رجال مبارك بدعم من الجنرالات ‘شركاء الحكم’ سعوا للتخلص من الإخوان ‘حليف الأمس’ واسترداد المواقع التى فقدوها، استغلالا للأخطاء الكارثية التى وقع فيها الإخوان، وافتقادهم المتسارع لشعبيتهم، بعد اصابتهم بسعار السلطة، والانشغال ‘بمشروع الأخونة’ واستعداء كل قوى ومؤسسات المجتمع، وتجاهل احتياجات الجماهير الأساسية، ما ولد سخطا عاما، وساعدهم في هذه المهمة قبول ‘ثعالب السياسة’ في المعارضة اليسارية والليبرالية، خاصة المنضوية في ‘جبهة الانقاذ’ وعلى رأسهم البرادعي وصباحي التعاون، واستغلال حماسة بعض الشباب، وطاقة الغضب داخلهم، جراء شعورهم بسرقة الاخوان ‘ثورتهم’، واستهداف الناشطين بالقتل والتعذيب، ومن ثم كان توجيههم نحو تدشين ‘حملة تمرد’ التى لاقت دعما ماليا وإعلاميا وسياسيا واستخباراتيا واسعا، جعلها تصل لكل المصريين من أقصى الشمال لأقصى الجنوب في وقت قياسي، وتظهر في الصورة كـ’حملة شباب’ ثم كـ’حملة شعبية’، وهي بمثابة ‘حصان طروادة’، بينما توارى الفلول و’جبهة الإنقاذ’ والمؤسسات الأمنية والعسكرية جانبا حتى يوم 30 يونيو، ثم بدأ ظهورهم التدريجي، حتى تصدروا المشهد من جديد، بغطاء شعبي حمل اسم ‘ثورة التصحيح’ وهو الاسم الذي سبق واستخدمه السادات قبل سنوات بعيدة. أى أنه في كلتا المرتين، لم يكن الهدف تغيير النظام، وإحداث تحول نوعي في المجتمع على كافة الأصعدة، وأنما التخلص من أوراق محروقة تمثل عبئا على شبكة المصالح التى تديرها أمريكا في مصر، وثوابت النظام الذي أسسه السادات (التبعية الأمريكية وحماية أمن الكيان الصهيوني عبر التطبيع واقتصاد السوق الرأسمالي)، ومثلما تمت الاستعانة بالإخوان في الجولة الاولى من معركة ترميم النظام، جرت الاستعانة في الجولة الثانية بأطراف أخرى من المعارضة لذات الغرض، وعلى ذات الأرضية، والتكتيكات والتحالفات المشبوهة. فأين إذن موقع الثورة أو الديمقراطية من عملية إحلال وإبدال، عبر صفقات سياسية ولعبة استخباراتية يقوم بها الجنرالات برعاية أمريكية، في إطار من حملة دعائية تنشط في الشارع وفي وسائل الاعلام ومواقع العمل وفي كل موقع تستهدف تعبئة الرأى العام وتوجيهه لمسار محدد سلفا؟ واقع الحال أن ما جرى هو عملية ترميم للمرة الثانية للنظام الذي أسسه السادات، والذي يعد ثورة مضادة أو انقلابا على ثورة يوليو، ومن ثم ادعاء أنصار الإخوان أن ثمة امتدادا لـ’ثورة ناصر’ حتى اليوم أو ‘الانقلاب العسكري’، حسبما يروق لهم، وتواصل على مدى أكثر من 60 عاما، مغالطة تاريخية مفضوحة. وكذلك محاولة الطرف الاخر تشبيه الجنرال السيسي بـ’الزعيم’ وتسويقه شعبيا، فوفق هذه المعطيات يصح وصف قائد الجيش بأنه من أبناء السادات أو مبارك، أو طنطاوي الذي قدمه لخلافته في إطار صفقة الخروج الآمن، وجميعه من ذات المدرسة التي لا ترى في الكيان الصهيوني عدوا، وأنما دولة جارة، و’كامب ديفيد’ ليست معاهدة عار واستسلام، وانما ‘اتفاقية دولية يجب احترامها’، وان أمريكا سيدة العالم لا يصح مناطحتها، و’اقتصاد السوق’ هو النموذج الأمثل الذي يمكن الاستفادة منه، بصرف النظر عن كوارثه على المجتمع من إفقار وبطالة وتبعية، وان من حق الجيوش أن تكون دولة داخل الدولة، وأن تقوم بعمل استثمارات، ولعب دور سياسي واقتصادي، وجعل الدور القتالي في مرتبة متأخرة تحت لافتة التمسك بـ’خيار السلام الاستراتيجي’. فضلا عن أن السيسي كان أحد أعضاء ‘المجلس العسكري’ الحاكم الذي سهل وصول الاخوان للسلطة، وجرى في حقبته العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان من قتل وتعذيب واعتقال وتعرية للفتيات في الشوارع و’كشوف العذرية’ وفض اعتصامات بالقوة المفرطة، وتجريم حق الاضراب والاعتصام وحملات تشويه ضخمة للثوار، فضلا عن ان السيسي كان مدير الاستخبارات الحربية التي تولت ملف الأمن الداخلي إلى جانب الشرطة العسكرية، وتسلم ملفات ‘أمن الدولة’، وأنكر في المحكمة معرفته بما جرى إبان أحداث يناير وما تلاها، وأنكر حدوث أية جرائم أو عمليات قتل، ولم يصارح الشعب كيف قُتل الجنود المصريين على الحدود، أو من المتورط في ‘مذبحة بورسعيد’ الأولى والثانية، إلى جانب مجزرة ‘محمد محمود’ و’ماسبيرو’. وأثناء وجود السيسي في حكومة الإخوان، وقت دعمها القوى امريكيا، لم نر تدخلا ابان ‘الاعلان غير الدستوري’ لمرسي أو التحرك لمنع حصار المحكمة الدستورية وتمرير الدستور غير التوافقي، الذي شاركت فيه المؤسسة العسكرية، وحصلت على امتيازات منه، أو حين تمت ‘مذبحة الاتحادية’. ولعل من المفيد، على الجانب الاخر، التذكير بأن ناصر ورفاقه في معظمهم كانوا يمارسون السياسة، ومهمومين بالهم الوطني ومنخرطين في تنظيمات سياسية، وإن كان عملهم بالجيش. كما أنهم لم يكونوا قيادات، بل كانوا صغار ضباط شعروا بوطأة الاوضاع وعجز الشعب عن تحقيق ارادته، وان عليهم ان يتحركوا لانقاذ البلاد استغلالا للقوة التي لديهم، والشائع أن من يقوم بالانقلاب غالبا هم القيادات العسكرية طمعا في السلطة، وانقلابا على حكومة منتخبة في حين كان النظام ملكيا وراثيا يعمل تحت سلطة الاحتلال وفي خدمته، وكانت الاحزاب السياسية مشغولة بامتيازاتها، وجزءا من هذه اللعبة الشريرة. وهذه كانت وسيلة التغيير المتاحة في هذه الحقبة التاريخية، ولم تكن حكرا على مصر، بالإضافة إلى أن ‘حركة الضباط الأحرار’ حظيت بدعم شعبي واسع، ولاقت قبولا عند الجماهير، وكلما خطت خطوة للأمام بإنجازات يلمسها الشعب، خاصة الغالبية من الفقراء، كانت توطد أقدامها أكثر، ويتكرس توصيفها بـ’ثورة’ وطنية منحازة للشعب قولا وفعلا، وليس شعارات جوفاء، ثم أن زعيمها ناصر خلع ‘البدلة العسكرية’ منذ وقت مبكر، وتم الاستفتاء الشعبي عليه، وبدأ يمارس دوره رئيس دولة تدعمه الجماهير، وزعيما بحق يحظى بثقة الشعب العربي كله، وليس المصري فقط طوال حياته، وليس قائدا عسكريا، واستعان بحكومات مدنية من ‘تكنوقراط’، تحفل بالوجوه الشابة التي شاركت بقوة في معركة البناء والتنمية مثل عزيز صدقي. وكان معروفا عنه أنه لا يأخذ قرارا الا بعد استشارة الخبراء والاستعانة بدراسات وافية، فضلا عن أنه كان من الذين يعترفون بالخطأ كخطوة على طريق تصحيح المسار، كما كان يواجه الجماهير بالتحديات أولا بأول، ليشاركوه في مواجهة التحديات، ولتقوية الجبهة الداخلية وتحصينها من الاختراقات، مرددا مقولته الشهيرة’الشعب هو القائد والمعلم’، فضلا عن تعريفه للديمقراطية بأنها ‘العدالة السياسية’، أي المشاركة الواسعة لكل الفئات، والاشتراكية بأنها ‘العدالة الاجتماعية’ أي ضمان تكافؤ الفرص بين جميع ابناء الشعب، وهو ما تحقق بالفعل في الممارسة اليومية وفي كل التنظيمات وأجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المختلفة، وفي الخطط الخمسية المتتالية. وقد أعترف لي أحد الضباط الاحرار الكبار ومن رموز ‘أزمة مارس’ خالد محيي الدين في حوار صحافي قبل قرابة العشر سنوات بأن عبد الناصر كان على حق وأكثر ذكاءً ووعيا بحركة الجماهير ومتطلبات المرحلة، ولو استسلم لدعاوى الديمقراطية والعودة للثكنات لتم إجهاض الثورة وعادت القوى القديمة، فالديمقراطية مع الفقر والجهل والمرض يعني لاديمقراطية واستغلالا للفقراء. وكل الوثائق وشهادات رموز تلك الحقبة تؤكد ان محمد نجيب كان واجهة فقط، ولم يكن قائدا للثورة، وجرت محاولات من جانب الاخوان وقيادات الاحزاب القديمة، خاصة الوفد، مع اتصالات بالاستخبارات البريطانية، للنفخ في نجيب، وجعله ينفرد بالسلطة ويقصي القيادة الفعلية، تحت شعارالديمقراطية والشرعية، فكان جزاؤه الخلع بشكل مأساوي، والانتصار للمسار الثوري. أخيرا، ربما يمكن القول إن الثورة الوحيدة الحقيقة التي جرت في مصر بمعايير الثورات بصرف النظر عن الخلفية العسكرية لمن قام بها، هي ‘ثورة يوليو’ ولذا تتم محاربتها ووصفها بالانقلاب العسكري من قبل من سعوا للسطو عليها وفشلوا مثل ‘الاخوان’ أو يتم استدعاؤها من وقت لآخر من قبل السلطة الحاكمة لاستثمار رصيدها الشعبي والمتاجرة به، نظرا لانجازاتها، وما اتسمت به من وضوح رؤية ووجود أجندة وطنية تستجيب لمطالب الجماهير وتحقق طموحه وتضرب شبكة المصالح ،التي الركن الرئيس فيها عهو الامبريالية التي تتولى ادارتها حاليا واشنطن مع الوكلاء المحليين. وطالما بقينا بعيدا عن الأهداف الستة التي طرحها الزعيم عبد الناصر ورفاقه فلا أمل في اي تغيير حقيقي، وانما اصلاحات جزئية لترميم نظام الفساد والاستبداد والتبعية. وأذكركم بهذه المبادئ التي يتقدمها القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، القضاء على الاقطاع، إقامة عدالة اجتماعية، اقامة جيش وطني قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة.