التكنولوجيا ومصير الإنسان

نسمع جميعا وكل يوم عن الطائرات بدون طيار دون تقدير معنى هذا في المستقبل المنظور، فهذه الطائرات تزداد بشكل واضح وقريبا سوف تلغي وجود العامل البشري، أي الطيار نفسه، وبذلك تزداد امكانيات الطائرة لأن أحد أهم المشاكل التي تحد من فعالية الطائرة هي التركيز على سلامة وراحة الطيار وبدونه تستطيع الطائرة القيام بالكثير من المخاطرات التي لا يمكن القيام بها بوجوده كما انه في حالة سقوط الطائرة لن نخسر الطيار وبالإمكان أيضا في هذه الحالة التخلص من تكاليف تعليمه وتدريبه وبالتالي فإنه من الواضح أن مهنة الطيار الحربي ستختفي.
والأمر لا يقتصر على الطيارات، لأن الدول الصناعية الكبرى بدأت بالإعلان عن صناعة أولى النماذج من الدبابات والغواصات والسفن وأشياء كثيرة أخرى التي تعمل بدون طاقم ونحن لا نتكلم هنا عن مركبات حربية موجهة عن بعد فقد أصبح هذا النموذج في الماضي لأن العمل الدؤوب في الوقت الحاضر يتركز على المركبات التي تقوم بتحديد الهدف وتوقيت أصابته بنفسها دون الرجوع إلى مركز القيادة وهذا ممكن بتقنية الذكاء الاصطناعي التي تتطور بسرعة مذهلة. وبذلك فسيكون القتال في المستقبل بين الروبوتات وليس البشر فلا داعي للسواعد السمراء والبيضاء وبقية الألوان لأن جميع هذه المعدات لا تحتاج إلى من يقودها وسيختفي المشاة وبذلك سيتقلص عدد العسكريين بشكل جذري ليبقى فقط العدد اللازم لإدارة القوات المسلحة دون الدخول في أية عملية عسكرية بشكل مباشر وبذلك لن يموت أحد في المواجهات المسلحة أو على الأقل بالنسبة للجانب المنتصر. والموضوع لا ينحصر في الجانب العسكري لأن الجانب المدني سيكون أكثر وضوحا حيث أصبحت السيارات بدون سائق على قاب قوسين وبذلك ستختفي مهنة سائق سيارات الأجرة والشاحنات والحافلات والطيار المدني وهذا يعني جعل الملايين من الناس عاطلين عن العمل.
ويتوقع الخبراء أن يقل عدد السيارات بشكل حاد وسيكون عدد الذين يملكون سياراتهم الشخصية صغيرا وأما أغلبية الناس فسيكون بإمكانهم طلب سيارة عن طريق الهاتف السيار وستأتي السيارة التي ستكون بدون سائق خلال دقائق لتأخذ الراكب إلى وجهته وما أن يصل إلى هناك ويتركها فستذهب السيارة من تلقاء نفسها لخدمة شخص آخر وبهذا المنطق، على حد اعتقاد الخبراء، فعدد السيارات سيقل بشكل ملحوظ وتختفي أغلبية مواقف السيارات التي تعج بها مدن الدول المتقدمة وأما الطرق الواسعة فستختفي حيث ستتحول إلى منتزهات أو تبنى عليها عمارات وبهذا الشكل ستتغير الحياة اليومية وهندسة المدن جذريا.
وقد أخذت الشركات المختصة في اليابان في تجربة الأجهزة التي تعوض عن الطبيب، فالطبيب لايستطيع أن يفكر بجميع الاحتمالات بسهولة وأما بالنسبة لجهاز الكومبيوتر فهذه المهمة بسيطة جدا وفي ألمانيا أخذت العمليات الجراحية بالروبوت تلقى رواجا وبذلك فإن الحاجة للطبيب البشري ستقل تدريجيا. ومع التطور التكنولوجي الحثيث حاليا أخذ الكومبيوتر يكتسب ببطء القابلية على التعلم وبذلك فإنه سيلغي وجود العمال والمهندسين في المصانع وليس فقط في خطوط الإنتاج بل في التصميم وتجربة النماذج الأولى وقد بدأ هذا في الحقيقة. وهناك مجالات أخرى فقبل أيام قامت إحدى الشركات بالإعلان عن أول قطعة موسيقية من تأليف الكومبيوتر وِشركة أخرى أصدرت أول أغنية لعيد الميلاد من تأليف الكومبيوتر والأثنتان كانتا سيئتين جدا ولكن هذه كانت البداية فقط وعلينا توقع نتائج مذهلة في المستقبل.
و في مجال التأليف يحاول المختصون انتاج أول نظام كومبيوتر قادر على التأليف الأدبي ويعرف الجميع أن الأنظمة الحديثة تقوم بالترجمة وهي في تحسن مستمر وتوجد حاليا الأنظمة التي تستطيع تحسين المواد المكتوبة وسيمتد الأمر ليشمل الرسم والكلام والهندسة المعمارية وحتى الخدم في المطاعم والمقاهي والمنازل والباعة في المحلات التجارية وموظفي البنوك والتي ستتوقف عن استعمال النقود كما نعرفها حيث ستتم كل المعاملات التجارية إلكترونيا. وفي مجال السينما فقد بدأت الأفلام التي لا يظهر فيها ممثلون حقيقيون، وليس المقصود هنا أفلام الرسوم المتحركة بل الأفلام الروائية التي يظهر فيها ممثلون تنتجهم أنظمة الكومبيوتر مقلدين البشر في المظهر والكلام وتجعل هذه التقنية المخرجين بمنتهى السعادة لأنهم في هذه الحالة لن يضيعوا ثانية واحدة على شرح ما يريدونه من الممثلين والتخلص من تكاليف أجورهم البالغة الملايين من الدولارات.
كل ما ذكر أعلاه سيكون مفيدا للحكومات التي ستستعمل الروبوت في عمل الشرطة ومراقبة المواطنين وفي هذه الحالة فإن المواطن لن يتعامل مع شرطي بل آلة لا تتفاهم أو تتعاطف بل ستمتاز بقسوة رهيبة وبالطبع سيكون احتمال الرشوة أو التأثير على الشرطة بشتى الاغراءات مستحيلا. إن أحدى أهم فوائد هذه التقنية هي تجنب الأموال الطائلة على تعليم الإنسان فكل ما سيحتاجه الروبوت هو برنامج يتم وضعه خلال دقائق بالإضافة إلى بعض الملحقات ولن يحتاج هذا الجهاز إلى إجازة أو علاج نفسي أو زوجة أو زوج وأشياء أخرى كثيرة جدا وأذا أصبح الجهاز عديم الفائدة فأنه سيفكك لاستعمال أجزائه في صناعة أجهزة جديدة عن طريق الروبوتات طبعا. وبهذا الشكل سيتم الاستغناء عن الإنسان حيث يعتقد أن القوى العاملة ستتقلص ليصل حجمها إلى 10% من الحجم الحالي، أي أن 90% من القوة العاملة ستصبح عاطلة عن العمل، وستعمل الروبوتات بشكل متزايد في الدولة ولكن يوجد خطر حقيقي في هذه الحالة، وهو إذا بلغ تطور الروبوتات إلى درجة إمتلاك ذكاء متطور يفوق الذكاء البشري بالإضافة إلى درجة من الوعي فإن الروبوتات قد تطيح بالطبقة الحاكمة وتصبح الروبوتات هي السلطة الحاكمة وبالتالي فأن المواطنين في هذه الحالة سيكونون في خدمة الروبوتات.
إن المستفيد اقتصاديا سيكون أصحاب الشركات الذين سيجنون أرباحا طائلة من كل هذا وتختفي الطبقة المتوسطة ويتحول المجتمع من الناحية الاقتصادية إلى طبقة صغيرة جدا من الأغنياء وأخرى هائلة من الطبقة دون المتوسطة. وفي هذه الحالة فستقوم الحكومات بإعانة هذه الطبقة عن طريق تقديم مرتب شهري للجميع مثل الإعانات الحكومية الحالية للعاطلين عن العمل ولكن ماذا عن الحالة النفسية والاجتماعية التي ستعاني منها الشعوب نتيجة لهذا التطور؟ وهل ستكون هذه فرصة للمرح والأبداع الثقافي في أوساط العاطلين عن العمل والذين يستلم كل منهم نفس المرتب الشهري؟ أذا أخذنا الدراسات الحالية عن العاطلين عن العمل فسنصاب بالذهول لأن جميع هذه الدراسات لا تبشر خيرا. فالعاطل عن العمل معرض للأصابة بالأمراض النفسية أكثر من غيره بكثير وأقل خروجا من منزله من الآخرين وأذا أعتقد القارئ أن الإنسان في هذه الحالة سيلجأ إلى القراءة لزيادة ثقافته، فهذه للأسف فرضية أثبت العلم بطلانها لأن العكس هو الصحيح وبالتالي تزداد ظاهرة الشعور بالوحدة والكآبة بشكل مستمر ويقل الأختلاط الأجتماعي وبالتالي يقل الأصدقاء والأقرباء بل قد تمضي أسابيع بالنسبة للمواطن دون أن تسنح له فرصة للتكلم مع مواطن آخر وخاصة أن محل العمل يعتبر أهم وسيلة للأختلاط الأجتماعي وباختفاء العمل فأن جانب هام من الحياة الأجتماعية للمواطن سيزول. وبانهيار الحياة الأجتماعية فأن فرص الزواج ستقل بشكل حاد مما سيسبب انخفاضا كبيرا في عدد السكان نظرا لقلة الإنجاب وكل هذا يستطيع استنتاجه كل من درس أوضاع العاطلين عن العمل في الدول المتقدمة التي تؤكد الدراسات زيادة في معدلات الكآبة والأمراض النفسية والعقلية تدريجيا بين شعوبها وهي التي تشكوا مجتمعاتها أصلا من الوحدة والأنعزال بشكل موحش. قد يعتقد المرء أن البشرية تسير نحو الهاوية ويجب ايقاف هذا الانحدار وهذا صحيح ولكن هذا لا يتم عن طريق أيقاف التقدم العلمي بل تشجيعه واستخدامه بشكل أفضل. فالتقدم العلمي كان دائما وسيبقى وسيلة هامة للارتقاء بالبشرية.

كاتب عراقي

التكنولوجيا ومصير الإنسان

زيد خلدون جميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية