قبل فترة وجيزة تلقيت ثلاث دعوات متتالية للمشاركة في اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر. لم أشارك في أي منها على الرغم من احترامي لهذا اليوم الكبير الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في ديسمبر عام 1973، والذي يقر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
سبب رد طلب المشاركة، بسيط جدا. اللغة لا يدافع عنها بالخطابات الميتة، ولا حتى بالمؤسسات الفارغة من أي حس عقلاني التي لم تعد تقدم شيئا لتحريك اللغة وتجديدها سوى جهاز مثقل بالإداريين ، ولكن بالمدرسة المتفتحة والعقلنة، والخطة الحضارية البعيدة المدى التي تعطي للعربية فاعلية حقيقية، والاهتمام عربيا وقوميا بهذه اللغة في أوطانها. الفرانكفونية واحدة من أعظم المؤسسات الثقافية المدافعة عن استمرار الفرنسية في العالم، فلماذا لا تنشأ مؤسسة شبيهة مهمتها مزدوجة، نشر اللغة العربية عربيا أولا، وعالميا أيضا.
في الكثير من بلداننا العربية، مغاربيا ومشرقيا، نحتاج إلى معرفة اللغة الفرنسية أو الانكليزية، أو إلى مترجم، ليفهمنا أهل البلد العربي، بل لنتحصل على حاجاتنا اليومية نحتاج إلى التحدث بلغة غير العربية.
جزء كبير من ساكنة العالم العربي لا يتكلمون العربية حتى في صورتها العامية، في بيوتهم. ويعلمون أبناءهم في مدارس أجنبية. طبعا ليس عيبا أن نختار مدرسة جيدة بيداغوجيا ومتطورة أجنبية، لكن العلاقة مع اللغة العربية يفترض أن تظل حاضرة إذا آمنا أنها لغتنا طبعا. عيب أن يكبر الإنسان ويعرف اللغة الإنكليزية، أو الفرنسية، أو الإسبانية، ولا يعرف لغته؟ المسألة بسيطة. إذا أردنا لهذه اللغة أن تتطور، علينا بحمايتها من موت أكيد يتربص بها. أن نمنحها وسائل التطور والانتشار. أن نسخر الوسائل البيداغوجية الحديثة لتبسيطها ووضعها في متناول الأجنبي الذي يريد تعلمها. ونقبل بكسر بعض القواعد الثقيلة التي تصعب عملية التعلم. وأن نرفعها إلى مقام الانتاج والفعل العقلاني بدل الارتكان إلى خطاب المناسبات السياسية أكثر منه المناسبات اللغوية التجديدية المصيرية. ماذا فعلنا لهذه اللغة من أجل تطويرها؟ تهذيبها؟ خدمتها؟ لا شيء يذكر. تعليم اللغة العربية يحتاج إلى ثورة حقيقية إلا إذا صممنا على حالة العمى المستشرية والمتسيدة اليوم. مساحات اللغة العربية تتضاءل اليوم بقوة في بلدانها، قبل غيرها. فهي تعاني صعوبات خطيرة. غالبية المتشبثبن بها والمنتمين إلى هيئات دفاعية عن اللغة العربية، ومؤسساتها الإدارية يغلب عليهم وعليها أي المؤسسات، طابع التقليد والمحافظة، يقفون بحماس كبير للدفاع عنها بالسبل الخطابية، لكنهم في الوقت نفسه، يقفون في وجه أي تغيير وأي تطور علمي يعيد النظر في ثبات البنيات اللغوية والنحوية من أجل تبسيطها وتقريبها لغير الناطقين بها. يكررون في كل خطاباتهم أنه لا خوف على اللغة العربية من الاضمحلال، فهي محفوظة ومقدسة ولغة أهل الجنة ولا يمكن المس بنظامها. التخوف الأساسي هو أن أي مس لبنيتها قد يبعدها عن نصها التأسيسي، ويقع لها ما وقع للغة اللاتينية. هذا خطاب أيديولوجي مكرور، لا علاقة له بما هو علمي. لسنا وحدنا في العالم.
الواقع اللغوي العربي والعالمي الموضوعي يفند كل هذه المًزاعم، إذ يمكن إيجاد الحلول العقلانية الوسطى التي لا تحرم اللغة من حقها في التجدد. العربية تتراجع بقوة في أراضيها وأراضي الغير. عندما ندخل لأقسام اللغة العربية في البلدان الأوروبية، فرنسا تحديدا، تواجهنا حقيقة مرة. الغالبية من المنتسبين لها إما عرب، أو من أصول عربية، أو إسلامية يقودها نحو هذه الأقسام الهاجس الديني، ثم المنتسب الأوروبي الذي اختار تعلم العربية بناء على أسباب عديدة، منها الذاتي الذي يتعلق بزيجة مختلطة والرغبة في فهم الآخر، والموضوعي المرتبط بالعمل الديبلوماسي أو التفكير في العمل في البلاد العربية، بالخصوص بلدان الخليج. في النهاية، كلهم يعانون من صعوبات كبيرة في تعلم اللغة العربية بسبب النظم التقليدية في تعليمها. الطرائق المستعملة لا تسهل المهام التعليمية لأن قداسة اللغة تمنع المس بتراكيبها وبنياتها ونظمها النحوية والصرفية لتسهيل استعمالاتها المعلوماتية.
الإنكليزية لم تتحول إلى ما هي عليه اليوم كلغة عالمية إلا بعد الثورة والتغيرات العميقة التي مستها. صحيح أن لغة شيكسبير تغيرت كثيرا وبُسِّطت إلى حد بعيد، لم تعد كما كانت بلاغيا، وغنى؟ لكن اللغة الحالية لا تمنعها من البراجماتية أي القدرة على قراءة لغة شكبير القديمة والارتباط بالمنجز العصري. اللغة الصينية القديمة والمندران، التي مرت عبر نفس المسالك، لم يمنعها ذلك من التحول إلى قوة عالمية. ما الذي يمنع اللغة العربية من انتهاج نفس المسالك التي تؤهلها لقراءة تراثها والارتباط عضويا بالعصر والحداثة. الحداثة تحتاج إلى ثورة حقيقية، ولا يمكن للتربية أن تظل خارجها وإلا ستموت. اللغة العربية الستاندار والمبسطة ممكنة.
بهذا العقل المحافظ والمغلق كثيرا، سنصل إلى وقت يتوقف فيه تعليم اللغة العربية لأن سوق العمل تكاد تكون غير متوفرة ومقفلة في وجهها. إذ أنها أصبحت تعبيرا عن الانغلاق وتحتاج لغة الفقراء هذه إلى هزة عنيفها تكسر جمودها. هذا الربيع العربي الذي ينفض عن العربية غبار السنين أكثر من ضرورة. عندما كانت العربية منتجة وفي عزها، كان يأتيها الأوروبيون من أبناء الأغنية، الأغنياء لتعلمها في الفترة الاندلسية. ثم جاءت الضربة القاضية في الفترة الكمالية التركية، وأحدثت القطيعة مع ميراث أصبح ثقيلا لأسباب يطول شرحها، سببها الأساس أن اللغة العربية مشروطة بالقداسة، وأصبحت معطَّلة ومعطِّلة أيضا بالنسبة للتصورات الكمالية. اختيار الحرف اللاتيني بالنسبة لمصطفى أتاترك. بعيدا عما هو سياسي وايديولوجي وآني، هناك رغبة في الخروج من فكرة التقديس اللغوي والانتماء لأبجدية لا مشكلة لها في الانزياح عن التاريخ والميراث القديم والنظام اللغوي أيضا. يمكننا أن نجدد اللغة العربية بالحفاظ عليها وهدم كل ما يعيقها.
الانتماء إلى لغة ليس الانتماء إلى الثبات الخلود اللغوي الذي لا يقبل الزحزحة، إلى أحادية قومية ضيقة ومغلقة، ولكن الانتساب إلى حضارة إنسانية تتحول ولو جزئيا في كل لحظة، واللغة جزء من تلك الصيرورة، في عز إضافاتها الانسانية، وتنوعاتها؟ وقابلية التتغير بنيويا وفق المنجز التقني والتربوي الإنساني. العربية هي القرآن الكريم وشعر ما قبل الإسلام، ولكنها أيضا المتنبي، ابن رشد، ابن خلدون.
الغزالي، ابن الرومي. الحلاج، ابن ميمون، بشار بن برد، أبو نواس، جبران وغيرهم من الذين انتموا بحب إلى لغة ساعدهم انفتاحها وقوتها وتجددها وانفتاحها، وجمالياتها، وقدراتها الباطنية والظاهرة على فتح المساحات على اتساعها، ومحو الخلافات والضغائن الدينية والعرقية والإثنية والانتصار للحداثة والتيامح والتجدد. فهل لنا اليوم قدرة البصيرة والتبصر والبراغماتية التي تمكننا من التعبير عن حبنا للعربية بالجهد الحقيقي بالاعتماد على المنجز التقني والبيداغوجي الإنساني، وليس بالخطاب المكرور والميت؟
واسيني الأعرج
مقال رائع
قال الشاعر ….وصوت صفير البلبل. اشجي قلبي الثمل……الخ….حاول الشاعر ان يأتي بكلام لم يقلة انسان قبلة ولم يعرفة احد..لذلك اتي بكلمات تحتوي علي الجناس التام لحروفها المتطابقة والمكررة الذي اعطت موسيقي سمعية معقدة للذي يريد محاكاتها …..اذاً التمرد والانقلاب علي اللغة هو الهروب من الواقع ويكون في نفس الوقت الانقاذ !.اعتقد يجب تعلم لغات الغير لسبيل الدخول في عالم العلوم المختلفة والاجنبية ،اذكر ان الرسول محمد (ص) طلب من الحبر ثابت ان يتعلم اللغة العبرية لكي يترجم للرسول اجتماعاتة مع يهود المدينة وغيرة ،فتعلمها ثابت فعلاًفي مدة ١٥يوم فقط! اذاً لماذا الرسول محمد لم يجيد اللغة العبرية ؟ ….اني وي مقالة رائعة ……..
ياسيدي رغم وجهة نظرك لكن ثمة حقائقاً أخرى…لونظرنا إلى اللغة العبرية اليوم ؛ هي من مهمشات اللغات ؛ أعاد لها أهلها الحياة ؛ رغم أنّ يهود إسرائيل يتكلمون عدّة لغات لكنهم في فلسطين المحتلة ( يفتخرون ) الحديث باللغة العبرية.فهل أنّ اللغة العربية كما جاء في مقالك أسوء حالاً من اللغة العبرية ؟ لا طبعاً.إذن ما السبب ؟ السبب المباشرأنّ أهل اللغة العبرية يحترمون لغتهم ( التاريخية والدينية ) ولا يفضلون عليها لغة شرقية أوغربية…فيما ( العرب ) غيرحريصين على سيادة لغتهم ؛ لعقدة قديمة موروثة…مفادها أنّ العربيّ كان وما يزال بين شرق وغرب : فارس / الروم ؛ كما أثبتتها سورة الروم ؛ ثمّ بين شرق وغرب : آسيا / أوربا ؛ ثمّ بين شرق وغرب : روسيا / أمريكا ؛ ثمّ فرضنا على أنفسنا رسمياً تعلّم إحدى لغات المحتل (الفرنسية أوالإنكليزية) بل جعلناها من أهمّ شروط الوظيفة.لوأبدينا العزّة للغتنا لتعلمها الناس من غيرالعرب.لماذا نساء أوربا اليوم يرتدين الشادورالإيراني حينما يزرنّ إيران؟ لأنّ الدولة الإيرانية الحريصة قد جعلته زيها الوطني الذي يجب أنْ يحترم…هل رأيت امرأة أوربية ترتدي الزيّ العربيّ في المغرب أوفي المشرق إلا فرادى لاعتبارات سياحية عابرة ؟ أما تشبيهك للعربية باللغة اللاتينية ( المنقرضة ) فهوتشبيه غيردقيق…لأنّ اللاتينية لغة كنيسة ؛ والعربية لغة أمة حيّة في السّماء والأرض.وهنا أسأل : لدينا مئات بل آلاف المثقفين والكتّاب العرب من المقيمين في ديارأوربا ؛ ويتحدثون أكثرمن لغة ؛ ماذا قدّموا للغة العربية من أساليب لغوية جديدة ومتجددة ؟ منذ عهد شعراء المهجرإلى طلبة السوربون.. هؤلاء هم أولى بها صلياً ؛ لوكان الأمريقوم على الانفتاح ؛ من دون مفتاح.قوّة اللغة تعتمد على قوّة الدولة والأمة ؛ ولا توجد أمة غيرّت لغتها من أجل ارضاء بقية الأمم ؛ هذا من خداع وغسل الدماغ. إنّ الدولة هي التي تفرض احترام خصوصيات الأمة حتى تتحول القوانين إلى عادة سهلة التناول والتداول بمرورالأيام.هناك حرب حقيقية ضد اللغة العربية ؛ منظورة وغيرمنظورة ؛ الهدف منها زعزعة الهوية القومية ؛ وصولاً إلى تهميش قمة الأمة وهوالقرآن.هذه ليست نظرية مؤامرة بل حقيقة تأخذ عدّة وجوه ملوّنة حسب كلّ مرحلة.ثمّ أليست الصين واليابان لغتهما من أصعب اللغات ؛ فلماذا لا تؤثران على نهضتهما الحضارية القويّة.إذن : المشكلة ليست في اللغة بل أقول إنّ نهضة اللغة العربية وسيادتها في الوطن العربيّ اليوم ؛ لا تكون إلا بوقف تدريس اللغات الأجنبية في المدارس العربية الابتدائية الأساسية..وإلا ستبقى العربية دائماً ( غريبة ) في ديارها لتعاني سلباً من التحديّ الذاتي والموضوعي.فمنْ لها ياتـرى؟ خصوصاً وقلة من التلاميذ عندنا منْ يجيد اللغة الأجنبية من خلال المدارس ؛ مقابل الملايين التي تصرف ؛ إلا إذا رافق ذلك ( عيش ) الطالب في ديارأهل اللغة…كما في أولاد الذوات أوالمهاجرين الغداة.من جهة أخرى : أرى أنّ ( النهضة الرّوائية العربية ) المعاصرة جديرة بتحقيق التطوّراللغوي ؛ بما تبدعه من أساليب خطاب جديدة ووليدة مضافة ؛ وبعد تراكمها ستشكل حصيلة لغوية ؛ كما قد سبق للشعرالعربيّ أنْ فعل ذلك.
اللغة العربية خالدة ان شاء الله.المؤسف حقا هى اللغة الهجينة اللتى تخلط فى نفس الجملة لغتان أو أكثر.
لغة الكاتب رائعة والاروع منها خوفه من اندثار اللغة العربية وابتعاده ربما وفك ارتباطه بالكتاب الفرنكفونيين في المهجر الذين يطالبون بمسحها نهائيا من الوجود لانهم لا يتقنونهاولا يتذوقون حلاوتها ويمجدون لغة المستعمر ويعتبرونها غنيمه حرب شكرا على هدا المقال الرائع
الدينامكية و التغير هي صفة كل لغات الانسان دون استثناء، والفرق هي سرعة التغير التي انما تعكس دينامكية الامة المتكلمة بهذه اللغة. وواقعنا العربي هو المثبط الوحيد للغتنا، فالسكون لا ينتج الا سكونا. ولكن الفرق الوحيد الذي يميزالعربية كونها لغة كتاب يؤمن به اكثر من مليار من البشر على اختلاف اعراقهم بل ولغاتهم
مقال جيد للغاية لكن لابد من استغلال كل الفرص لخدمة اللغة العربية وذلك لحث الارادة السياسية على اتخاذ قرارات جدية لصالح العربية ولتطبيع الشعوب العربية مع لغتها ولتشجيع الناشئة على استعمال لغتها والاعتزاز بها.