صراع ووساطة: دروس التاريخ

حجم الخط
0

قام الصراع الاسرائيلي ـ العربي بشتى مركباته، على مر السنين في مركز مبادرات وساطة كثيرة، وذلك في جهد لتسوية أو إقرار وضع ميدان الصراع على الأقل، وان تُمنع بذلك العودة في نفق الزمن مباشرة الى السابقة المخيفة وهي واقعة القتل في سراييفو في 1914، التي جُذب على أثرها النظام الدولي الى ملحمة الحرب العالمية الاولى.
على خلفية ‘المماثلة مع سراييفو’ هذه، وبسبب أهمية الشرق الاوسط الاستراتيجية، ليس من المفاجىء اذا أن تصبح المنطقة الاسرائيلية ـ العربية المشحونة بالتوتر والاختلاف مرة بعد اخرى مركز نشاط دبلوماسي متشعب، أدت فيه الولايات المتحدة دورا مركزيا. إن حقيقة كون هذا الصراع المستمر تصاعد من وقت لآخر وانفجر بأمواج عنف دورية (وإن تكن محدودة في المنطقة نفسها)، زادت في جهود الوسطاء المختلفين لتحقيق حلم الاستقرار والسلام. وهكذا دخلت منظمة الامم المتحدة والكرسي المقدس ومنظمة الوحدة الافريقية ورئيس الارجنتين كارلوس منعم والاتحاد الاوروبي وممثلو القوة العظمى الامريكية بالطبع. وحاول كل هؤلاء بطرق شتى ان يقودوا ويوجهوا الشرق الاوسط العاصف المتحارب الى بر الأمان.
لكن تكمن مفارقة ساخرة غير قليلة في حقيقة أنه برغم هذا النشاط الدولي المتشعب والمستمر، فان تسويات السلام القليلة التي وقعت الى الآن بين اسرائيل والدول المجاورة مصر والاردن نشأت في المنطقة نفسها ولم تكن نتيجة وساطة خلاقة فقط. صحيح أن الرئيس جيمي كارتر ومندوبيه أدوا دورا مهما في صوغ اتفاق السلام بين اسرائيل ومصر، لكن الأساس والأصل للمسيرة كلها كانا في الاقتراحات الممهدة للطريق من رئيس الوزراء مناحيم بيغن التي مهدت الطريق لزيارة رئيس مصر أنور السادات الدراماتيكية للقدس. والى ذلك فانه في اثناء التفاوض الذي سبق اتفاق السلام الاسرائيلي الاردني الذي وقع عليه في تشرين الاول 1994، لم يؤد البيت الابيض أي دور فاعل. ونقول بعبارة اخرى انه حينما كان الحديث عن اتفاقات سلام تعاقدية ورسمية (وإن لم تكن تؤيدها روح مصالحة من قبل المجتمع المصري أو الاردني نحو اسرائيل) كان مفتاح احرازها موجودا في استعداد الأطراف نفسها لقطع نهر الروبيكون، لا في صيغة سحرية ما قد يستلها وسيط خبير من جعبته الدبلوماسية.
اجل برغم الموارد التي بُذلت، فشلت كل المبادرات لاستجلاب بشرى السلام المرجوة الى المنطقة دفعة واحدة (في سياق متعدد الاطراف أو ثنائي الطرفين معا). وفي مقابل هذا حينما طُرحت في جدول العمل مبادرة أكثر تواضعا وصغرا كانت غايتها انشاء هدنة أو احراز اتفاق عسكري للفصل بين القوات، رأى بعض الوسطاء آنذاك كوزير الخارجية الامريكي وليام روجرز في آب 1970، رأوا بركة في عملهم. ويصح ذلك على نحو خاص على تلك الحالات التي كان يُرى فيها استمرار القتال أنه يُعرض للخطر مصالح حيوية للقوى العظمى. ففي تلك الحالات أصبح الوسيط الامريكي أكثر تصميما، بل أصبح احيانا يستعمل القوة في جهوده.
على خلفية هذه السوابق التاريخية فان احتمال أن يقود وزير الخارجية الامريكي جون كيري الطرفين الى اتفاق سلام مستقر (خلافا لاتفاقات اوسلو التي انهارت سريعا وتلاشت في هاوية النسيان) ليس مرتفعا وذلك خصوصا بازاء الصعوبة الأولية في اقناع الطرف الفلسطيني بدخول اطار تفاوض مباشر وبلا شروط ومعوقات سابقة. ومع ذلك ينبغي ألا نلغي تماما احتمالات ان يُقر الاجراء الجديد وضع الساحة وان يكون باعثا وخشبة قفز لاحراز اتفاق مرحلي جزئي لكنه بعيد الأمد.
في الأول من ايلول 1975 نجح وزير الخارجية الامريكي هنري كيسنجر بعد انقضاء سنة وساطة مليئة بالازمات، في ان يفضي الى التوقيع على اتفاق مرحلي عسكري بين اسرائيل ومصر (اشتمل على رزمة حوافز وتعويضات امريكية لحكومة اسحق رابين). ونسأل هل يكون ممكنا بعد مرور اربعة عقود تقريبا، وبواسطة تكتيك دبلوماسي مشابه وهو تقدم تدريجي وامتناع عن مواجهة وجها لوجه وفي الوقت نفسه لكل الرزمة المشحونة لجوهر الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، أن يُحرز انجاز مُقر للوضع مشابه (برغم الظروف المختلفة وبرغم تعقيد الصعيد الفلسطيني أكثر كثيرا من الساحة المصرية).

اسرائيل اليوم 24/7/2013

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية