لعل أهم إفرازات ثورات الربيع العربي هي إذكاء الخلاف الذي كاد أن يكون مزمناً، وهو تداخل الديني بالسياسي، لقد ترَكتّ هذه الشعوب نقّمتها على حُكامها الذين جثموا عقوداً وصرفوا النظر عن توحيد الرؤى المشتركة لإيجاد نظام سياسي يتناسب وتردي حالة المجتمعات السياسية والاقتصادية، وبدلا عن ذلك فقد اتجهوا لنزاعات طائفية من جهة، وبين الاتجاه الديني ومعارضيه من جهة أخرى! ولكن بالمقابل في ما لو أفضى ذلك الجدل وتبلور لتوافق في الرؤية والوعي الجمعي.. فذاك بداهة سيكون بداية لصحوة ستأتي ثمارِها آجلاً أو عاجلاً . وقد شكلتّ أحداث مصر الأخيرة بالانقلاب على النهج الديمقراطي منعطفاً أساسيا في هذا الجدل الفكري، لما تحمله ارض الكنانة من ثقل سياسي واجتماعي وعمق تاريخي وحضاري، وهو الأمر الذي قد يلقي بظلاله على بلدان عربية أخرى. كما أن ما يحدث في سورية من تناحر متصاعد واجهته التغيير والثورة، ولكنه يبدو أيضاً نزاعاً مذهبياً، إلا انه في حقيقة الأمر وبداهة يُغذى ويلقى مساندة إقليمية ودولية، ولا مناص بأنه غدا أيضا سياسيا بامتياز بأدوات محلية لم تدرك مغبة الانجرار بإقحام الدين أو المذهب في مصير امة، وهو الأمر نفسه في العراق الذي ينحدر نحو الهاوية يوماً بعد يوم، فمن يحكم العراق اليوم بعباءة مسخ تدعي الديمقراطية والإسلام، وهي في حقيقتها لا ديمقراطية ولا إسلامية، بل طائفية وهو فعلاً نموذج (للعراق الجديد) وأي نموذج هذا والذبح اليومي يجري على الهوية في أكثر من بقعة في ارض السواد، وأي نموذج وثلث الشعب تحت خط الفقر في بلد يسبح فوق بحيرة من النفط، وأي نموذج والعراق الجديد في المرتبة الأولى في الفساد في العالم؟ مِحنة الشارع العربي انه غدا مرتعاً خصباً للهرج والمرج وللشعارات البرّاقِة، وضحية أكثر لمن يدعون قيماً ويعملون ضدها فيدعون الديمقراطية ويسعون للإقصاء بدلا عن المشاركة، ويمجدون زعماءهم بعبادة الشخصية وكأنها ملهمة ومعصومة، وكأن الأمة لم تنجب غير جلاديهم، وهم ليسوا بوطنيين بتفضيل الحزب والتنظيم أو القبيلة والعشيرة أكثر من حرصهم على مصلحة الوطن، وهم في آخر الأمر ليسوا بمسلمين، فهم يقصون من يسمونهم بالإسلاميين، رغم أنهم أتوا بطرق ديمقراطية، وفي الوقت الذي يناصبون الاتجاهات الإسلامية الخصومة، أيا كان ذلك المذهب فانهم في ذات الوقت يعارضون مفاهيم كالعلمانية، وهم بهذا يناقضون انفسهم، وغدا المتابع بالفعل في حيرة من أمره إزاء كل هذه التناقضات. قضية الحوار في بلدان الربيع العربي تحديدا والوطن العربي إجمالا لا يكون ‘حواراً’، بقدر ما هو هجوم متبادل ومضيعة للوقت وهدر للطاقات، وإحباط مركب بين الأطراف المتنازعة، وتسارع في الاتهامات المتبادلة من الإقصاء في عقلية النخب الثقافية والحاكمة على السواء، ويذكي حدة خطاب الإقصاء بين تلك النخب للأسف، إلى درجة التكفير والتخوين. في هذا السياق تظهر تجربة تُركيا بتناغم النظرة العلمانية إلى جانب مواءمتها للحد الأدنى من الالتزام الديني الرسمي وكأنه علمانية (برؤية إسلامية) إذا جاز لنا التعبير، رغم انه يندر فيها الأقليات، فتركيا ذات أغلبية مسلمة وهذه الأغلبية يسودها أيضا مذهب واحد، ونسبة المسلمين في تركيا مقارنة بسكانها هي أكثر من دول المنطقة كسورية والعراق ولبنان وحتى الأردن، ورغم ذلك نجح هذا النهج السياسي، فهل الجذور العلمانية التي امتدت لعقود هيأت تلك الأرضية؟ أم أن نجاح حزب العدالة والتنمية في تلك المواءمة في إدارة واقتصاد بلاده التي قفز بها إلى مصاف البلدان المتقدمة صناعيا، وزاد الحد الأدنى من الدخل لثلاثة أضعاف في نحو عقد من الزمن. ولم يكن لأردوغان الاستقرار السياسي والنجاح النسبي في تلك الخطوات، لولا تنحية المؤسسة العسكرية ونجاحه في حياديتها وكان ذلك برضا وتشجيع غربي، بالنظر لسعي تركيا الحثيث للانضمام للاتحاد الأوروبي منذ عقود، وكان من شروط ذلك حسب معايير قمة كوبنهاجن إلى جانب معايير سياسية وديمقراطية وحقوق الإنسان ومواءمة قوانين تركيا إلى جانب الاعتبارات الاقتصادية الخ، وكان ذلك من حسنات سعي تركيا لذلك الانضمام، وبغض النظر تحقق ذلك من عدمه، ولكنها في المجمل قد كسبت معادلة كبيرة في تنحية المؤسسة العسكرية التي كانت تنقض للسلطة في أي خلاف من وقت لآخر كان آخرها انقلاب الجنرال كنعان ايفرن مطلع الثمانينيات، وهذا تقريبا نفس نهج حكومة العدالة والتنمية في تركيا، التي تصنف بإنها إسلامية، مع أن تفاصيل الحياة الرسمية على الأقل في المجتمعات الحضرية في تركيا تبدو مشابهة لمثيلاتها في البلدان الأوروبية ولهذا فان الأمور نسبية، فقد تنجح في تركيا وليس بالضرورة أن يكتب لها النجاح في اغلب المجتمعات العربية. وفي حقيقة الأمر أثبتت النخب الفكرية العربية ما يوحي بأن شعوبها غير مؤهلة للديمقراطية قياسا بإرثها الاجتماعي، وتسلط المؤسسات العسكرية على مقاليد الأمور في حال اشتد الخلاف بين تلك النخُب والسلطات الحاكمة، وكأن فكرة التعايش بين المفاهيم الإسلامية ومتطلبات الرغبة في حكومات ديمقراطية ليس بإمكانها الانسجام والتعايش، وسط هذه المعمعة تظهر دعوات جديرة بالتأمل، وهي المناداة بتناغم أفضل ما في الفكر الغربي برؤية شرقية إسلامية بمعنى المواءمة بين النزعة الروحية للمجتمعات العربية والإسلامية ومتطلبات التحديث والقبول بالديمقراطية الغربية، وهى ليست جديدة وتعود جذورها لمطلع القرن المنصرم بعد أفول نجم الخلافة الإسلامية العثمانية . جاءت العلمانية في الفكر الغربي بعد تسلط الكنيسة وتحالفها مع ملوك تلك الحُقب التاريخية التي عاشتها أوروبا، وكانت فرنسا من أوئل البلدان التي تحررت من سيطرة الكنسية ونادت بالعلمانية، وفي تعريف الغرب لها بأن الأخلاق والتعليم مبنيين على أسس دينية. وأنها مجرد حركة اجتماعية تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب. ومن المفارقات أن هذه الدعوات لما يمكن تسميته مجازاً التوجه العلماني برؤية شرقية مغايرة لما هي في الفكر الغربي، أن تأتي من رحم مؤسسات ومرجعيات دينية إسلامية كالأزهر الشريف والإخوان المسلمين أنفسهم فربما كانوا في النصف الأول من القرن المنصرم أكثر عقلانية ونضجاً عن نظرائهم اليوم، وما كتاب ‘الإسلام وأصول الحكم’ للأزهري علي عبدالرازق إلا بداية انطلاقة تلك الدعوات الجريئة. وفي سورية على سبيل المثال طور هذا الفهم مؤسس الجماعة في سورية ومراقبها الأول الشيخ مصطفى السباعي في خمسينيات القرن الماضي فيقول بأن التشريع الإسلامي ‘علماني’، وكان يقصد فى ذلك تحقيق المصالح وليس المرجعية التنويرية، ويقول السباعي أيضاً وتحديداً في هذا المجال: ‘إن الإسلام في تشريعه مدني علماني يضع القوانين للناس على أساس من مصلحتهم وكرامتهم وسعادتهم، لا فرق بين أديانهم ولغاتهم وعناصرهم..’ . وإنصافاً فان هذه الرؤية ليست مقصورة على مذهب دون آخر فهي مشتركة مع أقطاب وعلماء يصنفون مذهبياً برواد في الفكر الإسلامي الشيعي الحديث، فعلى سبيل المثال في كتاب الأمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهو من أقطاب الشيعة العرب بل رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان في كتابه ‘وصايا’ الإمام شمس الدين يحث اتباع الشيعة في لبنان والعالم إلى عدم الانجرار لتسييس مذهبهم، وأن يسيروا على خطا الإمام موسى الصدر وليس بتكتلهم في أحزاب سياسية تسير في فلك إيران وتساهم في زيادة الخلاف مع اخوانهم السنة، الذين يشكلون الغالبية في العالم الإسلامي وكذا معاداة الغرب لهم . وتعتقد وترى بعض النخب الفكرية العربية بأن المبدأ الأساسي في مصطلح العلمانية المؤمنة هو حرية التفكير لأنها تؤمن بأخلاقية حرية الفكر والفرد في التفكير بحثا عن الحقيقة، وهذا جوهر حقيقة الفكر الإسلامي نفسه فلا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، ولكن بالمقابل لا يعني ذلك تقليد الغرب طالما كانت هناك أغلبية مسلمة في هذا المجتمع او ذاك، بمعنى لا يتم تشجيع الخروج عن مبادئ الإسلام بتوفير السبل التي قد تزيد من عزوف الناس عن دينهم، بل بالعكس يجب لزاما في هذه الحالة ان تظل الرؤية الدينية للدولة وتظل للمؤسسات الدينية هيبتها واحترامها الرسمي والاجتماعي ، ومن هنا سميت بالعلمانية المؤمنة، وعليه فان تلك النخب التي تنادي بهذه الرؤية تعتقد أيضاً بعدم جواز مصادرة حرية التفكير باسم الله ومن قبل من يدعون تمثيله على الأرض، كما تؤكد أن الأفكار أيا كانت تظل بشرية الطابع فلا يتفق البشر إلا على حقهم في الاختلاف في إطار القانون والمؤسسات التي تنظم هذا الاختلاف، خاصة الدستور ومؤسسات الدولة. ولعل طبيعة وحساسية المجتمع العربي الذي يضم غالبية مسلمة قد دعت بعض كتاب الأمة إلى إعادة إحياء مسمى يحميهم من تبعات تلك الرؤية ويمهد الطريق لتقبل الفكرة، وارى أنه ليس لخطأ او صواب جوهر وفكرة المصطلح فحسب، بل ان المجتمعات العربية ولاسيما في مشرق الوطن العربي غير مؤهلة لمجرد مناقشة مثل هذه الرؤية، فهى مُنجرْةِ للتسييس أكثر من الفكر نفسه، وفي أحسن الأحوال الى هموم الأمة الأكثر ملامسة لواقعهم المعاشي أكثر من التطرق لأفكار بنائه، وهنا بدوري أؤكد أن ناقل الكفر ليس بكافر كما يقال! كاتب ومحلل سياسي يمني