انشقاقان بارزان، عسكري وسياسي، من جسم المعارضة، حدثا الأسبوع الماضي، أثارا الكثير من الغبار السطحي الذي سرعان ما سيطويه النسيان، مثلهما مثل جميع الوقائع السورية السيالة. العميد المنشق مصطفى الشيخ الذي اعتبر أن روسيا ليست دولة احتلال، ودعا إلى تكرار نموذج حلب في جميع المدن السورية المتمردة؛ ونواف البشير، شيخ عشيرة البكارة وعضو الهيئة السياسية في الائتلاف المعارض، الذي عاد إلى حضن «الوطن» أي النظام الكيماوي.
جاء الانشقاقان بعد سقوط حلب في قبضة ميليشيات الجهادية الشيعية المستوردة لمساندة النظام الكيماوي الساقط، في جو من الإحباط والمرارة في البيئة الاجتماعية ـ السياسية المتمردة على النظام. وإذا كان انشقاق البشير من النوع المألوف من «التوبات» السياسية التي اعتاد النظام الأسدي، منذ الثمانينات، على عرض نماذجها على شاشة التلفزيون السوري، تعبيراً عن غلبته على، وإذلاله لعموم الشعب السوري، حتى لو تعلق الأمر بـ»توبة» مجرم عادي في برنامج «الشرطة في خدمة الشعب»، فانشقاق العميد المنشق أصلاً عن جيش النظام، يبدو في سياق التسويق الروسي لـ«حل سياسي» رائزه الأساس إبقاء سوريا تحت الوصاية الروسية حتى بعد رحيل الأسد.
ذلك أن روسيا التي حاربت جواً، إلى الآن، فخدمت بذلك إيران وتابعه السوري، ويئست من إيجاد بدائل لرأس النظام من داخله، فجلست إلى طاولة المفاوضات في أنقرة مع ممثلي الفصائل التي طالما اعتبرتها إرهابية وحاربتها، باتت بحاجة، اليوم، إلى «معارض» عسكري سوري يدافع عن احتلالها سوريا ويدعوها إلى تعزيزه.
بيد أن للانشقاقين معاً وظيفة أهم، هي القول مجدداً بأن «الثورة انتهت»، وهي عبارة قيلت مراراً وتكراراً عند كل منعطف، أو حتى بلا مناسبة، بهدف بث الإحباط وفرض الاستسلام على السوريين ليعودوا إلى بيت الطاعة، صاغرين لحكم عصابة إرهابية تمسك بمقاليد بقايا الدولة المستتبعة للإيرانيين والروس. ثمة من يعتبرون أن الثورة انتهت بمجرد انتقالها إلى حمل السلاح، بعد أشهر معدودة من المظاهرات السلمية، تعرضت هذه خلالها إلى عنف غير معقول، من البلاهة الاعتقاد بأنها كانت ستستمر لو أنها لم تتسلح. التسلح فاقم المشكلة أكثر، وسمح للنظام باستخدام أسلحة أكثر فتكاً؟ هذا صحيح ولا معنى للمجادلة فيه. لكن نقاد التسلح لا يخبروننا شيئاً عن الثمن الباهظ الذي كان سيدفعه السوريون لو أنهم استسلموا وأوقفوا تظاهراتهم السلمية ورفضوا التسلح. هذا الثمن يعرفه السوريون من غير حاجة إلى تخمينات: لننظر إلى ما بعد شباط/فبراير 1982، حيث تم تحويل السوريين إلى عبيد بالمعنى الحرفي للكلمة، ولم تبدأ صناعة عبادة الحاكم الفرد حافظ الأسد إلا بعد انتصاره على سوريا في 1982. وما كان ممكناً أن يتخيل الدكتاتور الراحل توريث السلطة لابنه لولا قضاؤه التام على السوريين في ذلك التاريخ المشؤوم. كما يعرفه السوريون من الجيل الحالي، بالنظر إلى مصائر معارضين «وطنيين» على وصف النظام، كعبد العزيز الخير وفاتح جاموس على سبيل المثال. وثمة من يعتبرون أن الثورة انتهت بعدما تأسلمت معظم فصائلها العسكرية الكبيرة، وأصبح لتيار الإسلام الجهادي موطئ قدم على مساحات واسعة من الأراضي السورية. هنا أيضاً لا يخبرنا خصوم الإسلاموية والسلفية الجهادية شيئاً عن الجهادية الشيعية التي أصبحت صاحبة الكلمة الأولى ميدانياً على جبهة النظام، ناهيكم عن دور مخابرات النظام في تيسير نشوء المجموعات السلفية الجهادية، من خلال إطلاق سراح من سيتحولون إلى قادة تلك المجموعات، أو من خلال محاربة «المعارضة الوطنية» الداخلية والمعارضة المسلحة غير الجهادية، وهروب فلول النظام أمام تقدم «تنظيم الدولة» (داعش) مع ترك السلاح له، كما حدث في تدمر مرتين.
واليوم، يعتقد أنصار نظرية «الثورة انتهت» أن حجتهم أصبحت دامغة بعد سقوط حلب وهزيمة الفصائل العسكرية التي كانت متمركزة فيها. إنه لمنطق غريب أن من اعتبروا أن الثورة انتهت بعدما تسلحت، ثم تأسلمت، يعودون اليوم لإعلان نهايتها، على رغم أن من هُزِمَ فيها هو فصائل عسكرية متأسلمة لا علاقة لها بـ»ثورتهم الأصلية» المزعومة. ولكن علينا ألا نستغرب، ذلك أنهم يخاطبون الجمهور الذي ما زال يرفض نظام الكيميائي والبراميل، على أمل أن يعود إلى حضن نظامهم. وهنا أيضاً قد تنفع الإشارة إلى أولئك المدنيين الذين فروا من حلب الشرقية إلى المناطق الخاضعة لميليشيات النظام، إبان المعارك الأخيرة في شرقي حلب، فكان مصيرهم موزعاً بين القتل على الطريق، أو الاعتقال والتعذيب، أو الإرغام على القتال في صفوف الميليشيات ضد أهلهم في حلب الشرقية. هذه هي صورة سوريا إذا قررت العودة إلى «حضن الوطن».
وتستثمر نظرية «الثورة انتهت» النقاشات الحرة في بيئة الثورة، بما في ذلك نقدها الذاتي المتحرر من أي محرمات. فأنصار الثورة لا يجدون حرجاً في نقدها، نقد سلاحها وأسلمتها والنزعات الطائفية فيها وانتهاكات مسلحيها بحق السكان وسقطات معارضتها السياسية جميعاً. فلا شيء فوق النقد في بيئة الثورة. وهكذا يعتقد خصوم الثورة أن نقد الثورة لذاتها فرصة مناسبة لضربة قاصمة تنهيها مرة واحدة. متناسين أنهم لا يملكون بديلاً يتمتع بأقل جاذبية. فنظامهم الساقط ينام على اعتقال ومحاكمة فاتح جاموس الذي طالما مارس نضاله المعارض على شاشة فضائية النظام، ويستيقظ على تعفيش بيوت المؤيدين كما بيوت السكان الذين نزحوا من مدنهم بعد اجتياحها من قبل برابرة الميليشيات الطائفية، ليمضي يومه بعد ذلك في ضرب نبع عين الفيجة بالبراميل المتفجرة فيقطع الماء عن سكان العاصمة، ويتسلى في المساء بالهجوم على «النظام التركي» الذي يعتقل الصحافيين! ولكن مهلاً: ألم نكن نعرف مسبقاً أن النظام سيسحق أي تمرد سلمي عليه، سحقاً لا تقوم للسوريين بعده قائمة؟ ألم نعرف مسبقاً أن حمل السلاح ضد النظام سيكون كاللعب في ملعبه المفضل حيث يملك السلاح الثقيل الذي لن يتوانى عن استخدامه ضد المدنيين العزل؟ ألم نكن نعرف مسبقاً أن السوريين منقسمون على أنفسهم بعمق يفوق عمق الانقسام بين شعب ونظام، وأن قسماً منهم سيقف مع النظام ضد الغالبية المتمردة؟ أليس من الحصافة، والحال هذه، أن نقبل بأن تحكمنا السلالة الأسدية إلى الأبد، بدلاً من القيام بثورة أدت تداعياتها إلى دمار سوريا؟ قد تبدو هذه المحاكمة القاسية متماسكة وسليمة، بالنظر إلى ما حدث فعلاً وبات وراءنا. لكن جوهرها يقوم على حتمية قدرية لا يقبلها التاريخ. والثورات في التاريخ هي مجازفات كبرى بلا أي ضمانات، تحدث حين يقرر العبد، في لحظة جنون، أن يتحرر من عبوديته، مدركاً الثمن الباهظ الذي سيدفعه إذا فشل في مسعاه.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي