في عالم العلامات الرّحب كثيرةٌ هي الأشياءُ التي نُحمّلها وظائفَ ونتواصل بها في حياتنا دون أنْ نتكلّم، ومن بينها ثيابنا التي نلبسها ونخلعها كلّ يوم وقد نقف لأجلها مطوّلا أمام المرآة لنرى أنفسنا فيها قبْلَ أنْ يرانا فيها غيرنا وتقول له أشياء عنّا :عن أجسادنا وعن أنفسنا الباطنة وعن هويّتنا.
يرى عالم النفس دونالد وينيكوت أنّ نظرة الأمّ هي المرآة الأولى التي يرى فيها الطفلُ نفسَه ويبدو أنّ في طريقتنا في النظر إلى المرآة – ونحن بهذا اللباس أو بذاك- بحثا عن تلك النظرة إلينا حين كنّا أطفالا. وفي الثياب وجد المؤرّخون والإنثروبولوجيّون مادّة دسمة بيّنت بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ اللّباس أكثر من أن يكون واقايا من برد أو حرّ وساترا لعورة ؛ إنّه لغة ليس كلّ الناس قادرين على الإنصات إليها أو فهمها. ومن حظّنا العاثر أنّ ثقافتنا العربيّة ما تزال تعاني اليوم من مشاكل جمّة في التّعامل مع لغة اللباس هذه اللغة التي هي وسيلة تعبير حرّة تقول أحيانا أكثر ممّا يقوله الكلام عنّا.
يعدّ اللباس نظاما من العلامات له في علم العلامات (السيميائيّات) موطئ قدم اهتمّ به كثير من الدّارسين منذ أكثر من نصف قرن لعلّ أبرزهم السيميائيّ الفرنسيّ رولان بارت وخصوصا في كتابه «أنظمة الموضة». كان بارت يعتقد أنّ اللّباس لغة وهي «لغة يتكلّمها الناس جميعا وفي نفس الوقت لا يعرفونها جميعا»: يعني أنّ اللباس يمكن أنْ يُنظر إليه على أنّه وسيلة كونيّة في التّواصل، غير أنّ لكلّ جماعة لباسَها الخاصّ بها مثلما لها لغتها الخاصة بها. فاللّباس كاللغة سلوك كونيّ يجمع بين النّاس على مختلف مشاربهم؛ لكنْ لكلّ مجموعة منهم شكل خاصّ بها مع فارق بسيط هو أنّ اللّباس، إمّا أنْ يكون عالميّا وإمّا أن يكون محليّا، ولكنه لا يكون قوميّا: فالعرب ليس لهم – بما هم قوميّة كبرى- لباس واحد، والتونسيّون – بما هم قوميّة صغرى- ليس لهم لباس يميزهم بل لكلّ قوميّة منها لباس محليّ كان يميزها أو ما يزال.
يقول بارت في حديث صحافي يعود إلى عام 1967: ‘إنّ اللّباس هو أحد المواضيع التي نتواصل بها مثل الأكل والإشارات.. وقد كنت دوما في غاية السّرور وأنا أستنطقها لأنّ لها حضورا يوميّا ويمكن بها أن أتعرّف على نفسي فورا لأنّي أستثمرها في حياتي الخاصّة، ولأنّ لها من جانب آخر وجودا ذهنيّا ويمكن تحليلها تحليلا نظاميّا بوسائل صوريّة’.
ومثلما تنقسم اللغة عند دي سوسير إلى وجه اجتماعيّ مجرّد هو اللّسان ووجه فرديّ ملموس هو الكلام، فإنّ اللّباس عند بارت ينقسم إلى وجه اجتماعي هو الملابس ووجه فردي هو الكِساء. الملابس تتعلّق بعناصر مجرّدة مثل القياسات والأشكال والألوان (باستثناء تلك التي تستخدم في العادات) والكساء يتعلّق بعناصر فرديّة بما في ذلك القياس الفردي لشخص معين ودرجة عنايته بملبسه (نظافتها أو كيّها أو انتظام الأزرار فيها) واختيار الألوان وغير ذلك ممّا يمكن أن يردّ في اللباس إلى الفرديّ.
وبالنظر إلى اللّباس في بعض الأقطار العربيّة، فإنّ ما تعلّق منه بالوجه الاجتماعي (ملابس) يمثّل الخطاطة العامّة أو الشّكل المجرّد الذي على التحقّق الفردي (كِساء) أن يلتزم به. فمثلا كان الخُطاطيّ المجرّد في ملابس البلاد التونسية وأغلب البلاد العربية يعتمد على الشكل الثلاثي المجرّد العمامة والجُبّة ثمّ النّعل وهي بنية تراعي مكوّنات الجسم الثلاثية الرأس والقدم وباقي الجسم، بينما صار اللباس الخطاطي اليوم يسقط العمامة أو يجعلها شيئا اختياريا أو للاضطرار ويقسم الملابس في بقية الجسد قسمة ثنائية (القميص القصير أو السترة والسروال أو البنطلون). ولكلّ فرد قديما وحديثا الحريّة في اختيار الألوان والقياسات والأقمشة لكن مع التقيّد بالشّكل الخطاطيّ الذي يسود بين الناس. الثورة الكبرى على نظام الملبس تحدث في مستوى خطاطيّ، مستوى الملابس وما يحدث في مستوى فرديّ أي في مستوى الكساء يحدث بالتّبَع. وفي تونس خرجت النّسوة عن اللباس التقليدي بالآليّة وإن كان ذلك متأخّرا نسبيّا في الزّمان عن لباس الرّجال ؛ ونحن نجد اليوم في لباس بعض المتحجّبات مزيجا بين شكلين خطاطين الثلاثي القديم والثلاثي الحديث (بنطلون الجينز مع الخمار).
اعتبار اللباس لغة يدرك من وجهين أوّلهما ما يقوله اللباس وثانيها ما نفهمه منه وفي الثقافة العربية المعاصرة ما يزال يطرح كثير من الإشكالات في مستوى التعامل مع الثياب على أنّها أداة تعبير حرّة. فحيث توضع قيود على حرّيّة التعبير قد توضع قيود أيضا على حرية التعبير باللباس وفي هذه الأماكن يحتفظ اللباس بدور من أدواره الأوليّة وهو الحشمة ولا يتجاوزها إلى دوره التعبيري. غير أنّ الجسد الملفوف بلا تفاصيل يقول أيضا أفكارا مثلما يقولها الجسد المكسوّ بالتفصيل أو الذي فيه لعب على توزيع معلوم للكساء غير رتيب. يمكن أن نقرأ كلّ جسد لابس وفق طرق تقطيع اللباس فيه مثلما نقرأ الكلام وفق طرق التقطيع فيه. جغرافيّة الجسد باللباس تعني في سيميائيّة اللباس غير ما تعنيه جغرافية الجسد في ثنائية الحرام والحلال والجمال والقبح واللذة وكسرها وغيرها من الثنائيّات التي ما نزال بها نفهم بها الجسد المكسوّ في ثقافتنا العربية.
إنّ ما يسمّى في سيميائيات اللباس بإدراك الذات من خلال اللباس يؤكّد أنّ عصرنا اليوم يعيش ومن خلال اللباس أيضا تصوّرا يجعل الذات في درجات احتفاليّاتها الكبرى لأنّها في مرحلة الذات العارضة لمظاهر الفتنة فيها.
بعض الدراسات تميّز بين اللباس والموضة فاللباس هو كل ثوب يغطي الجسد لكنّ الموضة هي أسلوب من اللباس يقبله أعضاء مجموعة معينة على أنّه خاص بهم في لحظة أو مناسبة محدّدتين. بعض الثقافات العربية ما تزال تعيش مرحلة اللّباس ولم تستطع أن تنتقل إلى مرحلة الموضة؛ وما يزال اللباس لديها في مرحلته العلامية الأولى فيها يقف اللابس ضديدا للعاري ولا ينظر فيه إلى اللباس على أنّه «جملة» و»أسلوب» و»نصّ» يقرأ فيه الجسد والثقافة قراءة متفاعلة. من علامات أنّ الناس مازالوا في المرحلة العلاميّة الأولى أنْ يقيم الناسُ الأسوار العالية بين لباس نسوي ولباس ذكوري ويتجاهلون غزو اللباس الرجالي عالم النساء. الأمر لا يقرأ على الاحتذاء وإزالة الفوارق بل في الأمر تعبيرة ثقافية مختلفة من المقولة الشهيرة «أنايَ تكمن في ما أفعله بنفسي»، فإذا كانت التّنّورة في لباس النساء قد تبين عن إدراك لجمالية الذات في بعد عموديّ مكشوف فإنّ السروال والجينز بالأساس يبرز إدراكا آخر لجمالية الذات في بعد جانبيّ متستّر.
في المجتمعات العربيّة التي لا تعاني من القدرة على توفير اللباس، بل من استعماله لغة للتخاطب العلني، يبحث المحرومون من لغة اللباس الحيّة عن أراض أخرى ليمارسوا هذه اللغة في مجال يترك فيه اللباس فرصة للتعبير عن الأرواح التي تشف عنها الأجسام وعن الأجسام التي يشفّ عنها اللباس. يريد الجسم وهو حيّ أن يتمتّع في حياته بلباس حيّ قبل أن يموت وينفرد به الكفن.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
في كتابه ( أرض النفاق ) تناول المرحوم يوسف السباعي قضية العريّ عند الناس…وأشارإلى أنّ الناس لووجدوا أنفسهم أصلاً عراة الأجساد لكان ذلك مألوفاً لديهم وطبيعياً ؛ ولا يثيرالفضول على بعضهم البعض.رغم أنّ آخرين يرون أنّ ( استتارالجسد ) نزعة فطرية في الإنسان منذ
آدم وحواء…مقالك كان ( ماشي على المودة ) لكن فجأة أوصلتنا إلى هادم اللذات ( الموت ) وأوصلتنا إلى الكفن ؛ لتختتم به سيميائية اللباس
عند العرب.يعني وعند غيرالعرب أليس هناك الكفن ؟ نعم الكفن هو( الزيّ ) الوحيد الموّحد للإنسان.لكن هذا في عالم خارج الحياة…واللباس
للحياة لا للموت.لأنّ الكفن وظيفته ( كرم الحرمة للميت ) عند الدفن ؛ وكما في الحديث : { كرم الميت دفنه } ولوكان عارياً..لكن هناك زيّاً للأحياء شبيه بالكفن وهولباس الاحرام عند الحجّ والعمرة.اللهمّ ياستار: استرنا بنورك عن نارك الحارق ؛ وأسترالناس أجمعين من كلّ شرّطارق.
هذا المقال الطّريف عن سيميائيّة اللّباس أقحمنا في علم التّعبير بلغة الجسد ، والحقيقة أنّ هناك فرق بين الكساء واللّباس فالأول مقاصديّ غايته السّتر من التّعرّي والثاني ذاتيّ مقصده التّعبير عن الذّات ، وقيمة التّعبير في حرّيّته ولكنّها في عالم العرب الذي تكلّم عنه صاحب المقال حريّة مسيّجة بالمحرّمات الدّينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة ، وفي المثل التّونسي ” كول بكيفك والبس كيف النّاس”.
لدينا المثل نفسه أخي التونسي : ( كول بكيفك والبس كيف الناس ) : ( كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس ).
المقال يفضي نحو تساؤلات تتجه من العلامات والأنظمة التي تشتغل في الحياة الاجتماعية ضمن سيرورة التدلال إلى آفاق من المدلولات التي تتعالق مع المعرفة واللغة عموما لا يتأتى لها الاشتغال دون ربطها بالفكر
شكرا سيدي الكريم