يوم عادي جداً

حجم الخط
0

القاهرة – مهدي مبارك: ليلة 25 يناير/كانون الثاني 2011، أقابل صديقًا ضابط شرطة ساذجًا على فيسبوك، شخص مزعج جدا، ولا يصدق إنه مزعج وساذج، أعرفه منذ عدة سنوات وأقول له: دور ضابط الشرطة المخبر لا يليق بك، أنت طيب وخجول وبسيط وتافه وساذج، اكتب شعرا، اكتب روايات، العب باليه، هذه أعمال تليق بك، يدور بيننا حوار طويل حول مظاهرات الغد، أطلب منه أن يخبرني بخطط الأمن، فيقول: لا خطط ولا يحزنون، 100 نفر يهتف في ميدان التحرير، ثم ينظمون وقفة على سلالم نقابة الصحافيين ودار القضاء العالي، وكل واحد يرجع إلى بيته. ثم توقّف قليلًا، أنا شاكك إن أمن الدولة وراء المظاهرات غدًا، ورتّب لها ليصطاد نشطاء وعملاء أمريكا وحماس، وحزب الله.
بضع ساعات – فقط – كانت كافية لإحباط المخطط، بدأ المتظاهرون في الشوار المحيطة بالكورنيش وميدان سيدي جابر، حيث تيسَّر لمواطن سكندري مثلي أن يشارك، يتطلّعون إلى البلكونات، ويصرخون وسط هتافاتهم: “انزل انزل”، ولأول مرة في التاريخ، كان العشرات ينزلون فعلًا حين يشاهدون على شاشة التليفزيون مبنى الحزب الوطني يحترق بلافتة “من أجلك أنت” ويطوي تاريخًا من قرارات الخصخصة والقتل والفساد والموت الغامض، والأخبار على تويتر تؤكِّد: «جموع المتظاهرين تحتلّ ميدان التحرير».
ومع الاستقرار في ميدان سيدي جابر، تنبعث رائحة الغاز المسيِّل للدموع، والدخان، من مكان مجهول وقريب، تحذيرًا من هجمة بالخرطوش والرصاص الحي، ويا أهلًا بالمعارك يا بخت من يشارك.
أول قتيل في السويس وضع المدن الساحلية في دائرة الخطر، فميدان التحرير محتلّ وأعداده ضخمة لدرجة تضغط على شرايين الدولة لكي تسلّم الراية، لكن الأعداد في المحافظات الأخرى أقلّ من الاحتمال، ورغم ذلك، سجَّلنا موقفًا وبعد جري وكرّ وفرّ، حملت جمعة الغضب تعليمات، مجهولة المصدر والهُوية، بخروج المعتصمين في مسيرات إلى المنشية، وسيدي بشر، ومحطة مصر في محاولة لإنهاك العدو، الذي قالوا إنه يجوب المدن بسيارات تحمل رشَّاشات ومدافع ويضرب في المليان.. ووسط الزحمة والزخم والنقاء الثوري ظهر باسم يوسف، وتامر بتاع غمرة، وابن أخت الفنانة عفاف شعيب، واختفى ممتاز القط وسيد علي وعمرو عبد السميع، وانتهى تامر أمين.
كانت الأيام محمّلة بالإثارة والشغف والتجربة، والثلاثة معًا افتقدناهم بعد الثورة، وكان مهمًا أن نخرج من مرحلة المعارك إلى جمع الغنائم.. لكن ثلث الثوار دخل السجن، والثلث الثاني دخل المشرحة، والثالث يعالج نفسه بالصدمات، ولا يزال تحت تأثير مخدِّرات الثورة الجميلة.. تقابله في 2017، بعد مرور 6 سنوات على الأحداث، فيؤكد لك أن الثورة مستمرة، ويناقش، وينظَّر، ويراجع الحلم الجميل، ولا ينتبه إلى أن كل شيء راح.
انتهى زمن الثوَّار، وبدأ زمن المنفصلين عن الواقع، السادة المكتئبين، الذين خرجوا من المولد بلا حمص.. لا طالوا ديمقراطية، ولا استولوا على الحكم، وانقلبت الثورة إلى ذكرى، والذكرى انتقلت من خانة احتفالات الثورة إلى عيد لوزارة الداخلية، عدوة الثورة.. وباسم يوسف منفي في أمريكا، وبلال فضل اختفى، وممتاز القط (صاحب مقال الرئيس وطشة الملوخية الشهير) عاد بصحبة سيد علي مقدمين للبرامج في قناة شهيرة، وظهر تامر أمين مرة أخرى بنفسيّة ودماغ تامر بتاع غمرة.. وفي 2017 استسلمنا إلى أن الثورة مستمرة لكن «عطلانة في كمين»، وقنوات كرة قدم كثيرة، وكلام في السياسة قليل، وخوف كبير من المجهول، بينما كأس أمم أفريقيا تأكل الوقت والجو.
كأنك عدت بآلة الزمن، أو آلة الثورة، إلى 2010 بالضبط.. فـ25 يناير/كانون الثاني سيكون يومًا عاديًا جدًا.. الحياة ماشية مع – ورغم – أي «وجع قلب».

يوم عادي جداً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية