العودة إلى المربع الأول

حجم الخط
0

العريش – ‏شادي سامي: ‏حدث ذلك، في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، حين استطعت ولأول مرة أن أعبّر بشكل حقيقي وبصوت مسموع ومكرر عن تلك الرغبة الملحة بداخلي حينها:‏ «حرية .. حرية» كانت الحرية حينئذ مطلبا شخصيا قبل أن تتحول لاحقاً عندي وعند كثيرين لمفهوم نحاول أن نصدره كحلم تُبذل لأجله الأرواح والدماء، نحلم به جميعنا شباباً وشيوخاً، رجالا ونساء، أطفالا وعجائز، لهذا الذي يسمونه الوطن!
‏بدأتُ وأنا لا أملك رؤية واضحة عن ذلك الطريق الذي يتعين علينا أن نسلكه، لننتزع لأنفسنا وللآخرين أيضا هذا «الحق».
‏ولأن للدم حضورا مفزعا، فقد استفقت سريعا من رومانسيتي، أنا، وكثيرون، هنا في العريش، لنعرف مبكرا ماهية المشهد الحاكم في مصر، ربما لم تتح لنا المعرفة حينها، إنما كانت التجربة.
‏بدأ يتكشّف شيئا فشيئا تلك الثنائية المُحكمة التي تحكم المشهد السياسي في مصر. ‏انضممت في الأيام الأولى إلى التشكيلات الثورية الحديثة العهد بالسياسة والثورة، وقد غابت عن جميعها الرؤية والمعرفة، جميعها تساهم في صناعة الحدث بشكل يومي، جميعها لم تبادر بالفعل، انما كانت دائما متورطة في ردة الفعل.
‏كنت مستغرقا تماماً في حالة الغضب تلك، على كل شيء تقريباً، وكان للغضب والانتصار الزائف الذي حققناه بإطاحة رأس النظام حينها تأثير كبير على شعوري الداخلي، للمرة الأولى أشعر بداخلي: قوي، واثق، ولا يعرف في قاموسه الجديد كلمة خوف.
‏بأعداد قليلة، وبحناجر كانت ماتزال مؤمنة بالحق هذا، خرجنا إلى الميادين والشوارع، الرافضة لنا أبناء سيناء، وغير المصدقة حين كنا نصرخ بشكل جنوني «عسكر كاذبون»، نهتف ضد كل من خان، نهتف فنعذّب أكثر وتباح دماؤنا أكثر وأكثر، وكنا نؤمن أن لهذا الحق ثمن ندفعه، وكل إيمان كان بمثابة حماقة جديدة نصرّ عليها ونتوالى في تقديم أنفسنا قرابين لها.
كنا نقف حدادا على كل روح تزهق ظلماً وجوراً وعدواناً، لم يلتفت إلينا أحد هنا في العريش حين وجهت إلينا السيوف أو المدافع والرشاشات، من الدواعش والدولة معا.
‏ثلاث سنوات على هذه الأرض، ونحن نُقتل.. نصرخ.. نبكي أصدقاءنا وأقاربنا وجيراننا الذين يموتون غيلة.. نستغيث.. لم نقابل بشيء من هناك غير الإهانة ولم نوصف بغير الخونة أو الإرهابيين!
‏لذا كان من الضروري أن أعود لمربعي الأول.. أن أواصل الحلم بالحرية كما عرفته قبل الثورة. خائفاً. وذليلا. هذه المرة لا أنشدها للوطن، بل أنشدها لنفسي ولأسرتي الصغيرة ومدينتي الصغيرة.
‏بعد ست سنوات لم يعد لدي المزيد من الأسئلة لأبحث عن اجابات لها، الحلم صار كابوسا، هنا ندفع ثمنه عن الجميع، وكأننا وحدنا من حلمنا، وكأننا وحدنا من هتفنا به!

العودة إلى المربع الأول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية