مخيم الزعتري للاجئين السوريين – خدمات واسعة لكن لا بديل عن الوطن

اعترف أن لدي نقطة ضعف اسمها المخيم، مع العلم أنني لم أجرب الحياة داخل المخيم إلا لماما. ولا أذكر أنني زرت بلدا فيه مخيمات للاجئين إلا وأجد نفسي مشدودا للتعرف على حياة المخيم وسبل العيش فيه، وما إذا كان اللاجئ يعامل باحترام وتصان كرامته؟ أم أنه يهان ويهمش ويحاصر؟
لقد جلست فيما مضى مع اللاجئين الأفغان قرب بيشاور واللاجئين الصحراويين في تندوف، إضافة إلى اللاجئين السودانيين والفلسطينيين والعراقيين والأكراد وغيرهم. هذه المرة وجدت نفسي وأنا في زيارة قصيرة للأردن مدفوعا برغبة عميقة للتعرف على أحوال أهلنا اللاجئين السوريين، الذين وقعوا ضحية للظلم والطغيان من جهة والتآمر والخديعة والإرهاب من جهة أخرى.
الزيارة لمخيم الزعتري قرب مدينة المفرق الأردنية ليست بالسهلة. فبسبب الظروف الأمنية التي أتفهمها تماما يحتاج الزائر إلى تراخيص من العديد من الدوائر والأجهزة الأمنية، لكنها في النهاية تستحق كل تلك الجهود. فالسير في أزقة المخيم تثير الكثير من الأسى والقهر، لما لحق بالشعب السوري الأصيل والعزيز والعروبي من الأذى والظلم والاقتلاع والتشريد. أقيم المخيم في يوليو عام 2012 في صحراء المفرق القريبة من حدود سوريا الجنوبية، حيث يتشارك الشعبان في العادات والتقاليد والأعراق والمصاهرات. وقد وصل عدد القاطنين في المخيم في أوج ازدحامه في مارس وأبريل 2013 إلى أكثر من 200000 لاجئ، ثم انخفض تدريجيا إلى أن بقي فيه الآن نحو ثمانين ألف لاجئ، معظمهم من مدينة درعا ومنطقة حوران المحاذية وقلة منهم من دمشق وحمص وحماة. كان الفارون من بلدهم يعتقدون أن عملية النزوح ستستغرق شهرين أو ثلاثة أشهر وسيعودون إلى ديارهم بعد سقوط النظام. وعود كبيرة بعودة مظفرة وصلت إليهم من أكثر من جهة، لكن خاب ظنهم كما خاب ظن الفلسطينيين عام 1948 عندما وعدتهم الجيوش العربية بإعادتهم إلى ديارهم بعد تدمير الكيان. ويخشى بعض المهجرين هنا أن تطول غيبتهم كما حدث مع الفلسطينيين. بعض المهاجرين لم يتحمل البعد فقرروا التسلل والعودة «وشو ما صار يصير»، كما شرحت لي دلال العيسى مديرة مدرسة الهاشمي الأساسي.

اول المخيمات السورية خارج الحدود

بدأت أحداث الثورة السورية السلمية المطلبية في منطقة درعا المهمشة. وخوفا من بطش النظام من جهة والوعود الوردية التي وصلت إليهم من جهة أخرى اجتاز الحدود عشرات الألوف إلى الجانب الأردني. الأردن من جهتها أبقت الحدود مفتوحة لأكثر من سنتين، حتى وصل عدد المهاجرين نحو مليون ونصف المليون توزعوا في كل أنحاء المملكة، لكن الغالبية الساحقة منهم بقيت ملتصقة بأقرب المناطق إلى وطنها في منطقتي المفرق وإربد. فتح الأردن أرضه ومدنه وقراه ومدارسه وعياداته وسوق العمل الضيق لأخواتهم وإخوتهم السوريين حتى استنفد الطاقة الاستيعابية كلها. تجد في المخيم كافة المنظمات الإنسانية، وعلى رأسها مفوضية اللاجئين واليونسيف ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي. أما المنظمات الأهلية فأوسع من أن تحصى، يتصدرها الهلال الأحمر الأردني ومنظمات الرعاية الأردنية العديدة والمنظمات غير الحكومية الدولية مثل «أنقذوا الأطفال» و»أوكسفام» وغيرهما. كما تهافت المتبرعون في البداية فأمنوا الكثير من الخدمات الطبية والتعليمية والمعاشية ظنا منهم أنها مسألة أسابيع أو شهور.
كانت الشهور الأولى صعبة على شعب عزيز اقتلع من أرضه ورمي في الصحراء، تاركا وراءه بيوته ومصادر رزقه، ثم وجد نفسه في خيمة في الصحراء تتقاذفها الرياح والأمطار والعواصف الرملية، حيث أنشئ المخيم على عجل دون تجهيزات لحياة كريمة، ليستقبل 30 ألفا، ثم بدأ يتسع ويتضخم بطريقة عشوائية إلى أن وصل قمة الاستيعاب مع نهايات عام 2013. مشاكل المرحلة الأولى من اللجوء تكاد تختفي كما شرح لنا محمد الدويري مدير مدرسة الهاشمي للفترة الصباحية.
في المخيم 24 مدرسة موزعة بين الأحياء المترامية على مساحة واسعة. اختارت الحكومة الأردنية أن ترسل للمدارس معلمين مخضرمين معظمهم من المتقاعدين. المنهاج أردني والمعلم الأساسي أردني ويساعده معلم (معلمة) سوري. كل مدرسة تعمل بنظام الدوامين الصباحي للأولاد والمسائي للبنات. ويشمل التدريس أنواعا من الحصص الترفيهية التي تضم إلى جانب الرياضة الألعاب والرسومات والأنشطة المنوعة. وقد أنشئت في المخيم عدة حدائق للأطفال. وفي كل مدرسة، كما تقول السيدة دلال، مرشدة نفسية للتعامل مع الأطفال وحالاتهم النفسية، خاصة أن عددا منهم من الأيتام من الأب أو الأبوين. «المشاكل النفسية التي كان يعاني منها الأطفال في السنة الأولى لاقتلاعهم تكاد تتلاشى، كنا نشهد حالات من العنف بين الطلاب والصراخ والاكتئاب والانطواء، اليوم مع تحسين ظروف المخيم الحياتية تكاد تلك الظواهر تتلاشى». أضافت دلال «هناك مستشارة نفسية للبنات ومستشار للأولاد. ونحاول أن نوفر للطلبة كل ظروف التعلم الطبيعي. كما نحاول أن نعوضهم عن الحرمان والخوف اللذين مروا بهما بإيجاد ظروف نفسية مريحة».
مدير مدرسة عمر بن الخطاب الثانوية قال، إن المدرسة تضم 2800 طالب وطالبة و59 معلما ومعلمة و27 مساعد معلم من السوريين. اخترت أن أتحدث مع الطالب السوري محمود هاشم الزعبي، ابن الصف التاسع، الذي أخبرني أنه ينتقل بعد الدوام ليعمل في متاجر السوق ليكسب قليلا من الدخل لتخفيف العبء عن والده ووالدته. لكنه يحلم أن يصبح يوما ما مهندسا للمساعدة في إعادة إعمار بلده المدمر. «لا تغيب عني صورة بلدتي وأحلم باليوم الذي أعبر فيه الحدود إلى خربة غزالة المدمرة للمساهمة في إعمارها»، قال ذلك وهو في حالة عميقة من التأثر.

الخدمات الطبية

توجد في المخيم ثلاثة مستشفيات متكاملة إضافة إلى عدد كبير من العيادات العامة والمتخصصة. ويتم إجراء كافة المراجعات والمعاينات والعلاج محليا، إلا إذا كان المريض يتطلب عملية معقدة كالقلب المفتوح أو الجراحة الدقيقة، فيتم تحويل المريض إلى عمان أو خارج البلاد. وقد اخترت أن أزور المستشفى العسكري المغربي الذي افتتح في 14 أكتوبر 2012 ويشرف عليه 30 طبيبا و20 مساعدا، وصيدلي واحد وبيطري وطبيب أسنان وأشعة. ويضم المستشفى كافة التخصصات من أطفال وتوليد وقلب وباطنية وجلد وعظام وعيون وغير ذلك. ويقدم المستشفى النموذجي كافة الخدمات والأدوية مجانا. وقد شرح لي مجموعة من الضباط الذين يلبسون الملابس المدنية أن المستشفى أجرى 1200 عملية جراحية ويعاين يوميا نحو 350 مريضا وقد بلغ عدد المرضى الذين مروا على المستشفى منذ افتتاحه حتى اليوم 735161 مريضا.

سوق الحميدية
أجمل انطباع تتركه زيارة المخيم هو هذا النشاط التجاري الواسع لسكانه السوريين. فبعد أن استقر بهم المقام في المخيم شمر كل سوري وسورية عن ساعديه لينتج ما يستطيع إنتاجه، وإذا بالمخيم يعج بالبضائع من كل الأصناف، فمحلات الخضار والفواكة والملابس والمطاعم والموبايلات وكل ما يخطر ببالك، حتى أثواب العرائس البيضاء موجودة. لقد أطلق السكان على السوق الرئيسي في المخيم «سوق الحميدية» تعلقا بمهوى أفئدتهم دمشق العزيزة. وقد شرح لي العميد المتقاعد عيد العموش من جمعية الإغاثة الطبية العربية أن السلطات الأردنية تعاونت مع لجنة محلية لإدارة المخيم لتسهيل التجارة وتوفير الاحتياجات للاجئين كي يشعروا بأن إقامتهم المؤقتة بين أهلهم وإخوانهم ليست عبئا، بل يصحبها نشاط تجاري وثقافي وترفيهي.
زيارة مخيم الزعتري ليست لمجرد نقل إحصائيات ووصف المدارس والعيادات والملاعب بل للاقتراب من الجرح المفتوح والانصات لرواية الاقتلاع والتشارك في الهم والأمل، مع شعب كان وسيظل مضيافا لإخوته العرب. فلا شيء يوجع اللاجئ إلا عدم الإحساس بمعاناته ولا شيء يخفف عنه إلا تفريغ حمولة الوجع التي يحملها في قلبه. فلا يعرف التشرد إلا من يكابده ولا مرارة اللجوء إلا من يعانيها.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

مخيم الزعتري للاجئين السوريين – خدمات واسعة لكن لا بديل عن الوطن

د. عبد الحميد صيام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية