جاءت ذكرى ثورة يناير السادسة فوجدَتْها منزوية في ركن قصي بعيدا عن جمهورها وناسها وهم مجالها الحيوي الحقيقي الذي صنع منها إعجازا نادرا في التاريخ.. وجاءت الذكرى إعلانا بالانتصار الحاسم للثورة المضادة، وجحافلها بعد أن استعادت الإمساك بمقاليد السياسة والاقتصاد والإعلام والسوق والتشريع والضبط والربط و«التأديب»، وغيره. ويصدق على هذه الذكرى قول أبو الطيب المتنبى: «عيد بأية حال عدت يا عيد.. بما مضى أم بأمر فيك تجديد». وهذا في مطلع قصيدة هجاء فى كافور الإخشيدي.. بعد أن صار العيد كابوسا، دون بهجة أو فرح. ولم يعد هناك جديد؟، وهو ما ينطبق على ذكرى ثورة يناير المجيدة. فتأتي ذكراها وقد تربع أعداؤها على مقاعد السلطة، وتحكموا في كل مفاتيحها ومغاليقها، وشهدت هذه الذكرى إعلانا واضحا بانتصار الثورة المضادة وإفراغ الثورة من محتواها، بعد شيطنتها طوال السنوات الست الماضية.
ويبدو أن المواطن المصري خصوصا والعربي عموما موعود باجهاض أحلامه، وعدم تحقيقها، وكان تحقيق ذلك الحلم ممكنا، ولكن سرعان ما حل الأفول وعادت قوى الاستبداد والفساد والتبعية إلى سابق عهدها، وهي أكثر تجبرا وبطشا وفسادا وتبعية. هذا هو الذي طبع ذكرى الثورة هذا العام. وأضحى ما كان إعجازا نباهي به الأمم وصمة في جبين الزمن الراهن. وأتذكر أن العام الأول ما كاد ينتهي حتى وجدت الثورة نفسها تنتقل بسرعة البرق «من الإعجاز إلى الشيطنة»، ومع ذلك استمر الزخم حتى الخروج العظيم مرة أخرى في 30 حزيران/يونيو 2013، وبدلا من أن يكون استكمالا للثورة وعلاجا شافيا لما ألم بها فى سنتيها الأولى والثانية؛ صار ذلك الخروج تاريخا وعنوانا على الثورة المضادة.
وهذا ليس جديدا في التاريخ المصري والعربي الحديث، فإعجاز النصر العسكري فى اكتوبر قد تحقق، لكنه لم يرتق إلى نصر سياسي حاسم، وكان كل من أعدوا له وضحوا من أجله قد اودعوا السجون والمعتقلات، وفُرض على بقيتهم النفي أو الاعتزال، وجاءت «شرعية اكتوبر» الجديدة لتنهي «شرعية يوليو»، وصار الأمر وكأنه تقليد، فمن قبض الثمن غير من دفع الدم، وبدلا من أن يحصد الشعب العظيم غَلَّة انتصاره؛ سرقت منه، وسقطت «شرعية اكتوبر» من فوق منصة الكنيست الصهيونى، وعلى طاولة التسليم في منتجع «كامب ديفيد».
وانفرط عقد التضامن والتعاون العربي، وهو واقع قائم حتى يومنا هذا، وأي تماسك وتضامن فهو مؤقت؛ إن لم يضبط على البوصلة الصهيو أمريكية، ومجرد النظر إلى خريطة «القارة العربية» وما يشتعل فيها من حرائق، وما يراق على أرضها من دماء، وما يزهق فيها من أرواح يؤكد ذلك.
وإذا كانت ثورة يناير قد تشيطنت وقضي الأمر، وجاءت ذكراها على واقع مختلف هو ما يمكن أن نطلق عليه «ما بعد الشيطنة».. وليس هذا تلاعبا بالألفاظ بل هو إقرار حقيقة، فدائرة ما بعد الشيطنة أوسع من شيطنة الثورة، فتصل إلى حواضنها، وأهمها الحاضنة الشعبية والجماهيرية، فتلك النبتة الواعدة لا بد من اقتلاعها والتخلص منها، وذلك بـ«شيطنة الشعب»، والتحريض على «التأديب» المتواصل ضده، ومنها تدمير عملته الوطنية، كعقاب رادع لملايين الشعب قام بأعظم الثورات لعله يرتدع، وهذا يعبر عن غرور الثورة المضادة البالغ، وتصورها بأنها تملك قدرة خارقة للإجهاز على هذه الملايين.
وقرأنا على موقع «اليوم السابع» الألكتروني في اليوم السابق للذكرى كلاما لواحد يهدد وينذر ويقول: «ونحن نحتفل غدا الأربعاء بيوم 25 يناير، فإنه يأتى وقد استعادت الشرطة المصرية عافيتها وقوتها»، وكلامه يعني استعادة القدرة على البطش والتعذيب والقتل خارج القانون، ويواصل: «في الوقت ذاته فإننا نشكر ثورة 25 يناير التي كشفت المجرمين والمرتزقة، ولكننا في نفس الوقت نحذر ونؤكد على أنه إذا كانت ثورة 30 يونيو قد قضت على السرطان المسمى بالإخوان فإن هناك فيروسات أخرى أطلقها الخونة نحو مصر، والتخلص منها ضرورة، وهم الذين يصفون أنفسهم بالنشطاء رغم أن الشعب يصفهم بالعملاء، ولن يهدأ الداخل فى مصر إلا بعد أن يلقوا مصير الإخوان، أو ينال كل منهم جزاء الخيانة»(!!) والقصد هنا الملايين التي صنعت الثورة. ولم ينس الإشارة إلى أن تنحي مبارك «أنقذ مصر من مؤامرة إسقاطها»، ولا نعلم كيف أنقذ تنحي مبارك مصر. والسؤال هو كيف يمكن أن تلقى هذه الملايين مصير الإخوان.. وكان عليه أن يستمر في تهديده ويكشف نوع السلاح الفتاك المناسب للتخلص من هذا العدد من البشر؟، هل هو شيء مماثل لأفران الغاز الهتلرية؟!.
ولقد نال التنكيل والاقصاء كل من خرجوا في 30 يونيو. وطال شباب الثورة، ووضعوا في المحابس والسجون، وخضع أصحاب الرأي والمختلفون مع رئاسة الدولة للملاحقة والعزل، وصل حد المحاكمة كما في حالة هشام جنينة، فضلاً على حالات الموت تحت التعذيب، وحرمان المرضى والطاعنين في السن من العلاج والدواء المناسب
وأثار تدهور العملة الوطنية فاقت التصور، وفاجأت مسؤولي صندوق النقد الدولي، والدليل على ذلك جاء على لسان كريس جارفيس؛ رئيس بعثة «الصندوق» في مصر، وقد أعلن عن انخفاض «قيمة الجنيه المصري بأكثر عن المتوقع بعد تعويم سعر الصرف»، وأتصور أن صدمة هذا المسؤول الدولي ليست عفوا، وقد يكون فيها تجاوز لسياسة «الصندوق» النقدية تجاه اقتصاديات البلدان النامية، خاصة دول الطوق المحيطة بالدولة الصهيونية، فوصفات علاجه التقليدية هي ألا يدع هذه الدول تحيا في نفس الذي لا يتركها للموت، ويبقيها بين الحياة والموت، أما ما حدث لمصر فهو أشبه بقرار الموت
وإذا كان تدهور العملة الوطنية قد فاق توقعات «الصندوق»، وهو ليس مؤسسة خيرية، ولا ادعى حرصا على مصر أو غيرها من البلاد النامية، ويعبر عن ذلك التدهور رد رئيس وزراء مصر، وهو يعرف ما يفعل، ويعي أن قراراته النقدية مع محافظ البنك المركزي تدمر العملة الوطنية، ولو لم يكونوا يعلمون، بما فيهم رئيس الدولة، فلماذا لا يتقدمون باستقالاتهم، ويكتفون برد هشام اسماعيل على مبعوث «الصندوق» وبالقول أن: «ارتفاع وانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار لا يخضع للتوقعات»، والسؤال هو لأي شيء يخضع إذن؟ واستشهد بما حدث في فترة تعويم الجنيه، حيث بلغ الدولار قيمة مرتفعة ثم عادت الأمور بمعدلات طبيعية».
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب
لكن الخروج العظيم في ٣٠ يونيو لساعات هو الثورة المضادة ،وهي التي تحكم مصر الآن.