«بشري» اللبنانية مملكة السنديان والأرز منها خرج جبران خليل جبران ليشيع رسالة تسامح إلى العالم

حجم الخط
0

يتميز لبنان بتنوع ثقافي وحضاري قل نظيره في هذا العالم، انعكس على مدنه وقراه الجميلة المتناثرة التي تعددت وتميزت عن بعضها البعض بخاصيات عدة. فلكل مدينة لبنانية سحرها وجاذبيتها سواء تعلق الأمر بالشمال أو الجنوب أو الجبل أو بسهل البقاع ناهيك عن العاصمة بيروت ورمزيتها.
وتعد بشري، ودون مبالغة، واحدة من أجمل وأروع مدن شمال لبنان الذي له عشاقه من اللبنانيين وغير اللبنانيين يزورونه على مدار السنة. فهي مدينة تشعر زائرها بالرهبة والخشوع والتأمل في عظمة الخالق الذي أبدع طبيعة ساحرة واستثنائية يحبذها الرهبان والمتصوفة والزاهدون في الحياة الدنيا.

درة الشمال اللبناني

فوق جبل يرتفع 1400 متر عن سطح البحر تقع بلدة بشري، هذه القرية التي تعانق أحلامها الضباب وفيها تنتشر أشجار الصنوبر والسنديان وبين بساتينها وجبالها الشامخة ولد حلم لبناني وعربي يدعى جبران خليل جبران. هنا تعانق السماء قمم الجبال …وهنا للصمت والرؤيا معنى آخر وقيم أخرى …هنا تنشد فيروز اعطني الناي وغني ويبحث الشاعر والفيلسوف اللبناني طويلا عن مخيلته ليجدها في هذا النور اللانهائي وفي قدسية نهر الأساطير القديمة «قاديشا».
تنتمي بشري إلى محافظة لبنان الشمالي، الذي تعتبر طرابلس عاصمته وكبرى مدنه فيما بشري هي درته، وتضم المحافظة ستة أقضية منها قضاء بشري الواقع على الجانب الغربي من جبل المكمل، وهو أعلى جبل في لبنان. وتحد هذا القضاء من الشمال زغرتا والمنيا ـ الضنية ومن الشرق قضاء بعلبك ومن الجنوب قضاء البترون ومن الغرب قضاء الكورة.
وينتشر سكان قضاء بشري في أكثر من 21 بلدة، وفيه 12 مجلسا بلديا، هي قنات، وبقاع كفرا، وبقرقاشا، وبان، وبرحليون، وبزعون، وبشري، وحدث الجبة، وحدشيت، وحصرون، وطورزا، وعبدين. وتتجمع بعض هذه البلديات في اتحاد يسمى اتحاد بلديات قضاء بشري ويضم بلديات قنات، وبقاع كفرا، وبقرقاشا، وبزعون، بوشرّي وحدث الجبه، وطورزا.

موقع متميز

يوضح المؤرخ اللبناني عمر عبد السلام تدمري في حديثه لـ «القدس العربي» أهمية هذه البلدة وموقعها الجغرافي قائلا: «تقع بشري في شمال لبنان ويشرف عليها جبل المكمل الذي يخترقه وادي قاديشا باتجاه الغرب ويبلغ عمقه نحو 500 متر ومنه تتدفق مياه نهر قاديشا الذي يصل إلى طرابلس ويصب في البحر، وفيها يسمى نهر ابو علي. وفوق بشري توجد غابة شجر الأرز الشهيرة وهي تعلو سطح البحر بنحو ألفي متر وتتوسط الأرزة العلم اللبناني لرمزيتها عبر التاريخ بضخامتها وشموخها عبر مئات السنين. وفي أسفل الغابة مغارة قاديشا التي يتدفق منها ينبوع الينابيع بمياهه الباردة في عز الصيف وتسمى بمياه رشعين نسبة إلى أحد فروع هذا النهر الذي يسقي بساتين طرابلس.
ويشير المؤرخ تدمري إلى ان اسم بشري ورد ذكرها في «معجم البلدان» لياقوت الحموي وفيه: «جبة بشري» وإليها ينسب ابو محمد عبد الله الجي الطرابلسي الذي كان أبوه قسيسا وهو من أبرز العلماء وتنقل بين طرابلس ودمشق وبغداد واصفهان وفيها توفي سنة 1208 م وتخرج على يديه عشرات العلماء ومن بينهم المؤرخ المعروف ابن الجوزي صاحب كتاب «المنتظم في تاريخ الأمم».

أهم المعالم والآثار

في بشري ونواحيها آثار ترتقي في تاريخها إلى آلاف السنين ومنها مغارة من العصر الحجري تسمى «مغر الأهوال» نسبة لمنظرها. ومنها «قاموع بشري» وهو هرم من الحجارة يرتفع نحو عشرة أمتار على سفح منحدر تحته قاعة فيها مدافن قديمة يعود تاريخها إلى ما قبل ظهور المسيحية.
ويتابع تدمري بالقول، في بشري كنيسة تعرف بـ «سيدة الدر» مزينة برسوم جدارية، وهي في الأساس كانت محبسا فرديا، ويعتقد أهل البلدة ان هذه الكنــيـــسة هي شفــيــعة للنــســاء الـــعــواقر. وفـــي وادي قـــاديـشـــا يوجـــد دير سيدة قنوبين الذي يتخذ منه بطاركة الموارنة في لبنان مقرا للاصطياف كل عام.
ويذكر ان سلطان دولة المماليك الظاهر «برقوق» دخل هذا الدير بعد ان فر من سجنه في الكرك في الأردن سنة 1388 وكان متنكرا بشكل درويش ودخل بشري فقام بتعيين الشدياق «يعقوب بن ايوب» مقدما وكتب مرسوم تعيينه على صفيحة من نحاس ثم نزل إلى دير قنوبين فبات فيه وأعجبته حياة الرهبان فكتب صحيفة أخرى باعفائهم من الرسوم.

متحف جبران

ولعل أهم معالم بشري هو متحف جبران خليل جبران الكاتب والشاعر والأديب والمفكر المنحدر من هذه المدينة الساحرة ليصل إبداعه إلى شمال القارة الأمريكية ناهيك عن أوروبا والعالم العربي. في هذا المتحف يرقد جبران بسلام بمعية أشياء تخصه ولوحات رسمها ومخطوطات كتبها بخط يده.
والمتحف هو في الأصل دير يعود للمار سركيس وهو قديس ماروني عاش قبل قرون، وقد أوصى جبران أن يدفن فيه وكان له ذلك. فقد عملت شقيقة الأديب والشاعر والرسام على شراء الدير وفقا لوصية شقيقها، وكان لجبران ما أراد، أي أن يرقد بسلام بهدوء بعيدا عن ضوضاء وضجيج كبرى المدن الصاخبة وهو الفنان والمبدع والمفكر.
ويقبع متحف جبران، أو دير مار سركيس، في واحد من أروع أمكنة العالم تحيط به الطبيعة الغناء ومنابع المياه التي يضفي خريرها على المكان سحرا خاصا. ويحتار المرء أيهما أروع لزيارة المكان، أهو فصل الشتاء حيث بياض الثلوج هو الطاغي على المشهد، أم صيفا حيث خضرة الكساء النباتي الذي يغطي الجبال؟ فلكل فصل سحره في وادي القداسة أو وادي قاديشا حسب التسمية الفينيقية القديمة.
ولعل مجسم رأس جبران خليل جبران خارج المتحف والمطل على الوادي هو خير دليل على عشق الأديب اللبناني لقاديشا «العميق». ففي نحت هذا التمثال ووضعه في ذلك المكان رمزية، إذ بين جبران وبشري وواديها قصة عشق لا متناهية دفعت بالأديب الذي جاب أقاصي الأرض أن يوصي بأن يدفن في بشري.

محمية الأرز

تضم بشري واحدة من أهم محميات العالم التي تضم أقدم أشجار الأرز، ذلك الشجر الصلب والعملاق الذي يقال ان الفينيقيين صنعوا منه سفنهم التي جابت أصقاع العالم. وفسر البعض تفوق الفينيقيين بحرا بصلابة خشب الأرز اللبناني الذي يمكن السفن من تحمل الأمواج العاتية والذي تراجع وجوده في السنوات الأخيرة.
وباعتبار أن الأرز هو شعار لبنان ورمزه، فإن بشري بمحمية أرزها تختزل كل لبنان من شماله إلى جنوبه ومن سهل بقاعه إلى بحره مرورا بالجبل. ولعل تلك الأرزة الكبيرة الشهيرة التي يعرفها اللبنانيون وغير اللبنانيين والتي تزين البطاقات البريدية هي رمز أساسي من رموز بشري وعموم لبنان باعتبار أن بشري تختزل لبنان.
ومن المهم لكل زائر للبنان أن يذهب إلى محمية الأرز في بشري ويرتاد استراحتها خاصة أن التنقل على الطرقات الجبلية متعب ومرهق. ومن المهم أيضا أن يقتني زائر المكان التحف الخشبية والتذكارات التي تباع هناك للسياح الراغبين في الاحتفاظ بما يذكرهم بلبنان وباللحظات الجميلة التي تم قضاؤها في ربوعه الساحرة ومن ذلك بشري ومحمية الأرز.

القمم البيضاء

وتتميز بشري بقممها البيضاء المرتفعة التي تغطيها الثلوج وتوجد فيها محطة للتزلج يقبل عليها اللبنانيون والأجانب لممارسة رياضتهم المفضلة. وقرب هذه المحطة فنادق ذات جودة عالية يرتادها الفارون من حرارة الطقس صيفا وهواة التزلج خلال فصل الربيع على وجه الخصوص باعتبار أن كثافة الثلوج شتاء تتسبب في أحيان كثيرة في قطع الطرقات.
وتتميز هذه القمم البيضاء حيث المنتجعات السياحية الصالحة لكل الأوقات، بهوائها النقي المفيد لصحة الإنسان. فهذه الأماكن هي أبعد ما تكون عن التلوث وصخب المدن الكبرى التي أنهكت غلافها الجوي المصانع ووسائل النقل التي تنفث سمومها في كل الاتجاهات.
وتظهر هذه القمم البيضاء مرتفعة شامخة من بعيد، حتى من السهول والشواطئ التي تبعد مئات الكيلومترات عن وادي قاديشا ومحيطه. ففي بلد صغير مثل لبنان لا يرى أحيانا على الخرائط، يوجد تنوع لا مثيل له في بلدان العالم، فخلال أيام من فصل الربيع، يمكن مثلا للمرء أن يسبح في بحر شكا ثم يصعد إلى قمم بشري البيضاء ومحيطها للتزلج.
مدينة التصوف والمتصوفة

يقول أمين البجاوي وهو رجل تعليم تونسي من عشاق مدينة بشري اللبنانية في حديثه عنها: «أنا من عشاق جبران خليل جبران. قرأت كل ما كتبه على حد علمي وأعدت قراءته واكتشفت عبقرية أدبية لا مثيل لها. فأردت زيارة مدفنه في لبنان فكانت مناسبة لاكتشاف مدينة بشري ومحيطها ووادي قاديشا، فأصبت بحالة عشق خرافي لهذه المدينة أو البلدة الساحرة.
لقد أدركت أن في هذا المكان من وادي قاديشا سرا ما جعل جبران يبدع رغم أنه عاش بعيدا وتحديدا في الولايات المتحدة الأمريكية. في بشري تتكسر أجنحتك فلا تقوى على مغادرتها فتصبح مجنونا أو نبيا في مكان قصي عن المدن وعن ساحل البحر حيث لا رمل ولا زبد فترى عرائس المروج والمواكب أينما وليت وجهك حتى في زمن العواصف والأرواح المتمردة. فتصرخ في الأرجاء الفسيحة وتشدو (أعطني الناي وغني) في هذا الوجود الرحب وجها لوجه مع أرباب الأرض، وتتراوح مشاعرك بين الدمع والابتسام وتختلط عليك المشاعر لتكون بحق إحدى البدائع والطرائف. أنت في حديقة النبي تشعر بوجود يسوع ابن الإنسان وكل رسل السماء إلى الأرض.
إن بشري وواديها هما قطعة من قطع الجنة على هذه الأرض بما رحبت، هي أرض التصوف والمتصوفة للإنسانية جمعاء أيا كانت الديانة. فيها تهفو الروح إلى خالقها وتتحد السماء بالأرض في مشهد سريالي عجيب لا يعرف سره إلا من زار بشري وذهب حيث يرقد جبران بسلام، وأطل على وادي القداسة الشاهد في صمت على أسرار القديسين والنساك والزاهدين ممن مروا منذ قرون خلت في هذا الهيكل الطبيعي.
هناك أكثر من مكان جميل في هذه الأرض، لكن لبشري عبقها وسحرها الخاص حيث يختلط فيها جمال الطبيعة بالروحانيات التي ألهمت جبران والمار سركيس وستلهم غيرهم من النساك والعابدين. ونصيحتي هي اكتشاف هذا المكان الذي سيعود إليه زائره في كل مرة تتاح له الفرصة لقضاء أيام من السكينة والصفاء الروحي».

«بشري» اللبنانية مملكة السنديان والأرز منها خرج جبران خليل جبران ليشيع رسالة تسامح إلى العالم

روعة قاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية