تضيق المسافة أحيانا بين الواقع والخيال إلى درجة يصعب معها التمييز بين ما هو خيالي، وما هو واقعي. وقد تتسع بينهما حتى يصبح كل منهما مفارقا للآخر ومقابلا له.
كما أن الواقع أحيانا قد يصبح أكثر خيالية من الخيال نفسه. وفي كل الحالات التي تتخذ فيها علاقة الخيال بالواقع بعدا مركبا ومعقدا، سنجد الخيال يستمد أهم مقوماته مما هو واقعي وقد تجرد منها ليتحول إلى مدى يصعب القبول به على أنه وليد الواقع. ولهذا السبب كنا نجد الشعوب والمجتمعات القديمة لا تقيم مسافة بينهما، وتعتبر العالمين متجاورين ومتداخلين. فكان المرء يصدق وجود كائنات غير مرئية تشاركه الحياة، وتتدخل فيها بصور شتى. ومن هنا تولدت الأساطير والخرافات والحكايات العجيبة التي تتعايش فيها الكائنات المختلفة التركيب والطبع.
رغم التطور الذي حصل في تعامل الإنسان مع العوالم المادية المحيطة به، ووصوله إلى التعامل مع الملموس والمادي، ظل الإدراك الإنساني الذي يتصور المسافة واهية بين عالم الخيال والواقع قائمة حتى في المجتمعات التي قطعت أشواطا بعيدة في التعاطي مع المادي، وقطعت أي علاقة مع الخيالي. ونجد في الإبداعات المختلفة بدءا من السرد إلى المسرح والسينما والرسم تأكيدا لهذا التصور التقليدي الذي ظل يمارس منذ القدم، وحتى زماننا هذا. ولعل السؤال التداولي حول الرواية يؤكد ما نذهب إليه. من بين الأسئلة التي تطرحها آن روبول في سعيها لإقامة مقاربة تداولية للسرد، سؤالها الذي تطرحه بالصيغة المباشرة التالية: لماذا نقرأ رواية نعلم مسبقا أنها قائمة على الخيال؟ ونظل نتابع تطورها بنهم وشوق لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور؟ لماذا ننغمس في عالم خيالي تبنيه الرواية، ونحن نعلم مسبقا أنها خيالية؟ ولماذا يكون ما نتصرف به حيال نص «خيالي» غير مختلف عما نضطلع به أمام نص «واقعي» يمس حياتنا اليومية أحيانا. لطالما انشغلت الدراسة الأدبية والأنثروبولوجية بالتخييل والمتخيل والمخيال. لكننا في المجال العربي لم نفكر جيدا في هذه المفاهيم بما يكفي لجعلنا نقيم علاقة دقيقة بينها، سواء في الحياة أو التصور أو الإبداع بكيفية ملائمة. ومن آثار غياب هذا التدقيق بقينا نتعامل معهما بصورة ملتبسة. نتحدث الآن عن الرواية والتخييل والتخييل الذاتي، فما هي العلاقات والحدود بين هذه المصطلحات؟ وما مدى تصرفنا إزاءها بالكيفية التي تضمن ملاءمة تقضي بالتمييز الذي لا يؤدي إلى الالتباس؟ حين نطرح مثل هذه الأسئلة أؤكد أن تعاملنا معها يظل في نطاق لا يتعدى حدود الترجمة التي تلح على البعد المعجمي لا الاصطلاحي. وفي ذلك نركز على التعيين اللغوي لا الإيحاء المعرفي.
تظل العلاقة بين الخيالي والواقعي معقدة ومركبة في الإدراك البشري. وحين نتأمل الفارق بينهما من خلال الملاحم والأساطير والحكايات العجائبية القديمة، وما تقدمه لنا الآن روايات الخيال العلمي وروايات الرعب والفانتازيا، لا نجد فروقات كبرى على مستوى التمثيل السردي للعلاقة بين الخيال والواقع. لقد استبدلت الآلهة الآن بالكائنات الذكية التي تزخر بها الكواكب والمجرات خارج مجالنا الفضائي. كما عوضت العفاريت والجن بالأدوات التكنولوجية التي تخترق الزمان والمكان. كما حل محل السحرة الخبراء والمختصون في المعلوميات. وعلى صعيد الزمن، إذا كانت النصوص القديمة تنقلنا إلى الماضي السحيق، فالنصوص الحديثة تبعدنا إلى المستقبل المجهول. فما هو الفارق بين الخيالي والواقعي؟
إن عشقي للسرد المغرق في الخيال الذي مثلت له بالبحث في السيرة الشعبية لا يضاهيه سوى عشقي لروايات الخيال العلمي، والأفلام المتصلة بهذه الروايات. إنها جميعا تجسيد للعلاقة المركبة والمعقدة بين الخيال والواقع، والشعور الإنساني تجاه العالم الطبيعي. غير أني، وأنا أتابع ما يجري في الوطن العربي، خصوصا في المواطن التي تتعقد فيها الأمور جراء الحرب التي تمارس على الإنسان العربي في العراق وسوريا واليمن، وأتأمل «الصور» «والقصص» التي تنقل إلينا عبر الفضائيات، وفي الوقت نفسه أتابع الأفلام التي تتحدث عن نهاية العالم، والحروب مع الكائنات الفوق ذكية، فأجد أن ما يقدمه لنا الـ»واقع الحقيقي» للحرب العربية أبشع وأغرب من الحروب التي تقدمها لنا روايات «الخيال العلمي». وكم من مرة تساءلت مع نفسي: كيف يمكن لروائي عربي أن يرصد لنا هذا «الواقع» الذي صار يبدو لي من خلال صور الدمار، والآثار التي يخلفها على الإنسان في عمل سردي؟ وفي الوقت نفسه، وأنا أتصور صناعة الأفلام الأجنبية عن الحروب، وما تقوم به المؤثرات التقنية في صناعة الدمار، كيف لمخرج عربي أن ينتج فيلما «واقعيا» عن المأساة العربية؟ وكان الجواب الذي يتأكد لي مع الزمن، هو أن «الواقع» العربي أكثر تعقيدا من «خيال» روايات الخيال العلمي، فصغت مفهوم «رواية الخيال الواقعي» للتعبير عن الإبداع العربي الممكن، سواء في السرد أو السينما، ليكون مقابلا وموازيا في رعبه وهوله لما تقدمه لنا «روايات الخيال العلمي».
لم نكتب رواية الخيال العلمي الحقيقية لأن العلم والخيال العلميين غائبان عن ثقافتنا. فهل سنكتب يوما رواية «الخيال الواقعي»؟
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
” حينما ندرك حقّاً قيمة فنّ الرّواية في حياتنا سنكتب رواية الخيال الواقعيّ،بل حينما نعي معنى وجودنا وقيمتنا كإنسان سينفتح لنا كلّ شيء،وإلى أن يحين هذا ،ستظلّ قراءة الرّواية ملجأ للفرار والتّفريج..ومبحثاً للرّاحة العقليّة والنّفسيّة عند بعضنا،ومجرّد لعبٍ وكلام خيالٍ لدى آخـر … وما أدراك ،ما يعكس ويعبّر الخيال عند الكثيرين منّا نحن بني يعرب وناطقي العربيّة المستوحِشة.”
“رواية الخيال الواقعيّ” مفهوم صُنع أداةً يقتفيها النّاقد،لكن النّاقد ليس جنديّا…والنّقد ليس ترسانة مفاهيم…ـــــ مجرّد رأيّ ــ