رغم أن الواقع بنظرنا واضح وفاضح لا يحتاج إلى دليل، إلا أن بعض المحللين والمثقفين العرب ما يزالون يعيدون تكرار الفكرة القديمة ذاتها التي تصور إيران دولة عادية لا تفعل سوى البحث عن مصالحها بشكل براغماتي كغيرها من بلدان المنطقة، وأن من يصورونها دولة عقائدية لا تتحرك إلا وفق منظور طائفي، أولئك هم الطائفيون والمحبوسون في أطر العقيدة والاختلافات المذهبية التي تجاوزها الزمن.
أحب في هذا المقال مناقشة بعض هذه الأفكار التي يروج لها أنصار المشروع الإيراني، عبر أكثر من وسيلة إعلامية داخل وخارج العالم العربي. بدءاً يمكن تقسيم أنصار ذلك المشروع من غير الإيرانيين إلى قسمين: أولهما، هم أولئك الذين ارتبطت مصالحهم به، سواء من الأفراد الذين يقتاتون على هذه الدعاية، التي أصبحت بالنسبة لهم مصدراً للرزق، أو المجموعات والدول الحليفة لطهران، التي تدين بالولاء مقابل الحصول على الحماية وضمان السند المادي والسياسي. هذا القسم لا جدوى من محاولة مناقشته لأنه لا يملك إلا الاستمرار في نهج الدفاع عما يسمى زوراً بمحور المقاومة والممانعة، وهو يكرر في ذلك عبارات ممجوجة ربما يكون قد حفظها كل من يتابع البرامج الحوارية التي تضم مثل هذه النقاشات في الإذاعات أو التلفزيون.
أما القسم الثاني، فهم أولئك الذين، وبتأثير من الضخ الإعلامي، باتوا يقتنعون بجدوى الاصطفاف مع إيران التي تواجه بزعمهم المشاريع الغربية والتي تشكل محوراً بديلاً عن المحور الامبريالي، الذي يهدف لتقوية الكيان الصهيوني، في الوقت الذي يقوم فيه بإضعاف الكتل العربية الكبيرة والدول التي كانت لوقت طويل أكثر تأثيراً في المشهدين العربي والإقليمي. ومن طرائف هذا الزمان أن رموزاً كبيرة، مما كان يسمى التيار القومي، الذي نشأ أساساً للتعلية من قدر الهوية العربية، مقابل حركة التغريب من جهة، والكيانات الإقليمية المجاورة والمنافسة كالفرس والأتراك من جهة أخرى، باتوا اليوم أقرب إلى المحور الإيراني فكأنهم صاروا عروبيين وفرساً في الوقت ذاته. مثل هذا يمكن أن يقال عن أحزاب وشخصيات علمانية كبيرة أيضاً، فبعد قرابة القرن من الحرب التي تم شنها من أجل إقناع المجتمعات العربية بعبثية ولا موضوعية المزج بين الدين والسياسة، وبعد الكتب والمؤلفات التي ظلت تنتقد إيران نفسها وتسخر من مشروعها لتسييس الولاية وربطها بالمرجعيات الدينية، بعد كل ذلك عاد أولئك لتمجيد الثورة وتقديم دعاية مجانية لملالي طهران الذين بات بعضهم يعلن، بلا تقية، أنهم أحق بحكم المنطقة، جميع المنطقة بما فيها بلاد الحرمين الشريفين.
رغم كل ذلك فإنه لا شيء يمنع مناقشة بعض الآراء التي تبدو في ظاهرها موضوعية، كقول أحدهم أن تهميش السنة في إيران لا يعود لمذهبهم وإنما يعود لكونهم يسكنون أماكن قصية في الدولة الإيرانية، اي أن التهميش مناطقي وليس مذهبيا، إضافة إلى سبب آخر وهو أن هذه الأقاليم الحدودية تمت إضافتها في وقت متأخر للدولة القاجارية، التي هي أصل الجمهورية الإيرانية الحالية التي نشأت بدورها بعد الثورة على نظام شاه إيران.
بكلمات أخرى، تقول وجهة النظر هذه إن الدولة القاجارية التي حكمت أجزاء من المنطقة بسيادة مطلقة للعرق الفارسي وللمذهب الشيعي المغالي على الطريقة الصفوية، التي استمر حكمها لأكثر من مئة وأربعين عاماً قد دخلت في تحدٍ مهم عقب الحرب العالمية وتمكين الشاه من تسلم السلطة، ففي تلك الفترة تمت إضافة مناطق لم تكن تابعة أصلاً لها، ما ولّد المشكلة الحالية التي يعتبر الإقصاء والتهميش من أهم أوجهها.
كل ذلك، رغم ظاهره الموضوعي، لا يبرر شيئاً، فهل ضم منطقة الأحواز العربية مثلاً يبرر تهميش وظلم أهلها، بمن فيهم أصحاب المذهب الشيعي، لمجرد وقوع مناطقهم على الحدود المتاخمة للمنطقة العربية؟ وإذا كان السنة المنتشرون في أقاصي البلاد غير معترف بهم وبهوياتهم، فما الذي يبرر عدم وجود مساجد للسنة في العاصمة الإيرانية، التي تدعي أنها عاصمة حديثة ومنفتحة وتتباهى بمنح حرية العقيدة والعبادة حتى لأبناء الطائفة اليهودية؟
كل ذلك لا يعفي نظام الولي الفقيه من المسؤولية، وإن كان البعض يقول إن هناك من الشيعة، خاصة من الأعراق غير الفارسية من هو واقع أيضاً تحت الظلم، فإننا نستنتج أن ظلم أهل السنة هو ظلم مركب، فهم مظلومون كعامة الإيرانيين في مناطق الهامش، وهو مظلومون مرة أخرى كغيرهم من المخالفين لمذهب الإمامة الإثني عشرية. ما يذكر أيضاً من أجل الإيحاء بأن المذهب ليس أصلاً في المشروع الإيراني قولهم، إن أهم المعارضين للنظام وأبرز الأسماء والتيارات التي نسمعها في وسائل الإعلام هي أسماء وأحزاب منتمية للعقيدة الشيعية، وتلك حقيقة فعلاً، فسواء تحدثنا عن الصراع بين الإصلاح والمحافظة، وسواء تحدثنا عن الانفتاح أو التشدد، فإن كل العناصر التي سندرسها هي عناصر من داخل البيت الشيعي. إلا أن من الغريب أن يقرأ ذلك على أساس أن السنة لا مشكلة لهم، فالصحيح هو أن السنة لا وجود سياسي لهم ولا حقوق مكفولة تمنحهم حق تكوين أحزاب أو حتى روابط أو جمعيات.
جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني قال في تصريح خلال منتدى دافوس الاقتصادي، إنه لا يرى سبباً للعداء بين بلاده والسعودية، وأنه يرحب بالتعاون لحل مشكلات المنطقة. في الواقع فإننا كذلك لا نرى سبباً للعداء لا مع السعودية ولا مع غيرها من بلاد الجوار القريب أو البعيد، لكننا لن ننخدع مجدداً بمثل هذه الكلمات التي توحي، بأن الطرف الآخر، الذي هم السنة، هو الطرف المتشنج والمهووس بمعاداة إيران لمجرد اتباعها مذهباً مختلفاً. الحقيقة التي يتم التهرب من ذكرها في كل مرة، رغم كونها واضحة للعيان هي أنه لا توجد حالة واحدة حاولت فيها دول جوار إيران التدخل في طريقة حكمها أو محاولة التأثير عليها، ناهيك عن تغييرها أو محاولة تجنيد أفراد أو ميليشيات لتعمل داخلها، أو لتزعزع أمنها. بالمقابل فإن تحركات إيران بهذا الاتجاه لا يمكن حصرها.
لقد نشأت الدولة الصفوية التاريخية في ظل ظروف إقليمية خاصة، واستطاعت عبر الحرب والاسراف في القتل والتخاذل أن تغير هوية ومذهب مسلمي إيران لتحوّلهم إلى عقيدة مغالية ومعادية ومحاربة لجيرانها من المسلمين. هذا هو ما يخبرنا به التاريخ، أما ملالي إيران الحالية فهم يطمعون في أن ينجحوا فيما فشل فيه آباؤهم الصفويين من امتداد لضم الجزيرة العربية كلها، ولذلك رأينا كيف أنهم لم يستطيعوا كتمان فرحتهم بوقوع أربع عواصم عربية تحت نفوذهم وبأنهم «قادمون» إلى كل مكان.
هذا هو سبب رفض الكثيرين إشراك إيران بتوجهاتها الحالية في أي مساعٍ للحل والتفاوض حول صراعات المنطقة، التي كانت هي بالأساس السبب الأهم في إشعالها، خاصة أنها لم تقدم بعد، عدا بعض العبارات الدبلوماسية المتفرقة، أي دليل على رغبتها في تغيير سياساتها.
هل يمكن بعد كل ذلك القول بأننا ظلمنا إيران؟ وكيف يمكن في هذا السياق لأكثر القادة السياسيين انفتاحاً التعاون مع دولة أحد أهدافها المعلنة هو مد سيطرتها ونفوذها نحو بلاده؟
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
سؤال بسيط : هل زرت ايران ولو لمرة واحدة؟ لكي تكون موضوعيا فلاباس ان تتحرى , فالمعلومات الجاهزة وترديد بعض مقولات الاعلام الخليجي لا تظهر الحقيقة التي تدعو للبحث عنها.
مع تقديري لكل عربي غيور على عروبته ودينه فانني الفت النظر كفلسطيني انه في الوفت الذي كان الكثير من الدول العربية والاسلامية تخشى من تاييد الشعب الفلسيني بمجرد مظاهرة كانت ايران وسوريا وحزب الله يدعموننا بالسلاح ويعتبرون ان هذا واجبهم !
وشكرا
اشكرك سيد ابو الحسن عهذا التعليق الصادق