بلغ اهتمام قدماء العرب بالأدب أن اعتبروه علمهم الدنيوي الأول (وكان الشعر على رأس ما يهتم به في هذا العلم). وكانت سائر العلوم منشدة إلى هذا العلم، عليه تتأسس وبه تتقوم، فبنيانها لا يصح إلا إذا وهبها الأدب الصحة اللازمة، ذلك أن سائر علوم العرب تتقوم بقوام اللغة وأحكامها حقيقة ومجازا، وهذا هو السر الكامن وراء تسمية مؤلفاتهم بصفة تتكرر في هذه الأسماء، وتدور كلها حول «أحكام صنعة الكلام» ذلك ما نجد في كتاب الكلاعي الحامل للاسم السابق ذاته، وما نجده عند أبي هلال العسكري في كتاب «الصناعتين» صناعة الشعر وصناعة النثر، أو ما نجده في تضاعيف كتاب ابن الأثير «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». وهؤلاء وغيرهم إنما كانوا يعنون بالصنعة أو الصناعة، علم الأدب الذي لا يتقوم لأحد في الممارسة الإبداعية إلا بإتقان ومعرفة كل ما يكون الأدب به أدبا، وساروا على هذا الاعتقاد وبه حكموا على جودة الأدب، شعره ونثره، باعتماد ما يسميه عز الدين إسماعيل بالأسس الجمالية، على أن يفهم من هذا الاصطلاح المستمد من علم الجمال ما كان قدماء العرب يفهمون به الأدب باعتباره علما، ولا بد لكل علم من أسس ومبادئ عليها ينهض وبها يتقوم في ما يحقق له الاستمرار أو الحياة الدائمة.
ولقد اهتم العرب، منذ عصر التدوين، بالكتابة وصناعتها، واستخدموا لهذا الغرض من الوسائل، ما استطاعوا الوصول إليه، مما تحفل به الثقافة العربية أو ثقافات الأمم الأخرى، التي توسموا فيها الفائدة، بيد أن العرب، في كل ذلك، إنما كانوا يتطلعون إلى الازدهار الحضاري والرقي بأدبهم، الذي هو أساس تفكيرهم الحضاري، به ينظرون إلى الأشياء والحياة، إلى الوجود والموجود. وعاش هذا الأدب حياة مفعمة بالحركة الدائبة، التي تتقوى على أيدي الأدباء والنقاد والعلماء الذين يطورون النظر إلى الأدب ويجددون هذا النظر مع كل ما يطرأ على الحياة الحضارية من جديد، وما أكثر هذا الجديد الذي يصاحب الإنسان العربي في حله وترحاله، بيد أن الأدب، عند العرب، بدأ يتقلص دوره في الحضارة العربية مع انهيار هذه الحضارة وصعود حضارة أخرى غالبة قوية، تعمل على إخراس الحضارة البائدة وتمحو كل آثار قوتها الماضية، ولم يستطع هذا الصنيع أن يقضي على الأدب العربي قضاء كاملا، وإن كانت ذاكرته الثقافية قد أصابها الموات واعتورتها أعطاب الحياة.
فلما تجدد النظر إلى الأدب، في زماننا، على ما وصلنا من تراث التجديد هذا من الأمم الأخرى، وجدنا أنفسنا إزاء تصورات جديدة للأدب، تبدأ من مفهوم الأدب ذاته، هذا المفهوم الذي عرف، تطورا تاريخيا، اتسم بما تتسم به مراحل التاريخ في حياة الأمم كلها. ومن يقرأ ما يروج ويتداول في الثقافة العربية الراهنة، يقف على ما يحدد الأدب، الآن، سينتهي إلى خلاصة دالة، وهي أن آدابنا العربية قد أفادت من آداب الأمم الأخرى، في هذا العصر، مما لم يكن متاحا لها، في أي عصر من العصور السابقة، وأننا نعيش، على مستوى النظرية، مع مفهوم جديد للأدب باعتباره علما، وإذا كان تحديد المفاهيم، في حد ذاته، يشكل نظرية، فإننا إزاء نظرية للأدب العربي، تختلف اختلافا بينا، عما كان عليه هذا الأدب، عند من سبقنا من أجيال الأدباء والنقاد والعلماء، والحال أننا لو أمعنا النظر في مفهوم الأدب ذاته، ألفيناه متغيرا متحولا متطورا بتطور حياة الإنسان، وأننا نحيا في عصر علت فيه صولة العلم التجريبي (الإمبريقي) على ما عداه من العلوم، ومنه (علم الأدب)، وهذا ما جعل نقادا كبارا يحلمون بـ(علم الأدب) بالمعنى الجديد للعلم، خاصة أن النجاحات الكبرى التي حققتها علوم اللغة منذ مطلع القرن العشرين، جعلت هذا الحلم ممكن التحقق.
وإلى وقتنا الراهن، وبفضل انتصارات العلوم الإمبريقية ما زال هذا الحلم يراود نقاد الأدب والمهتمين بتطوير درسه والنظر إليه. هذا ما نجده عند الناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980) الذي ردد في كثير من مقالاته النقدية اللامعة هذه الرغبة اللاعجة في الانتقال بالأدب إلى درجة (العلم) بما يتسم به العلم من صرامة منهجية ودقة فكرية في تحديد المفاهيم. وهي رغبة خالجت الكثيرين منذ ثلاثينيات القرن العشرين، كما هو الحال عند أيفور آرمسترونج رتشاردز صاحب كتاب «مبادئ النقد الأدبي» الذي يرى أن هذا النقد يقوم على أساس شيئين رئيسيين: أولهما تفسير عملية التوصيل وثانيهما تفسير القيمة. والنظر إلى الأدب، على أساس هذه الرؤية مشوب بالعلم وإنجازاته، وما يمكن أن يمده من عون لدراسة الأدب ونقده. وإنه لفي متناول الباحثين التعرف على أثر العلم التجريبي بمنجزاته وكشوفاته في الأدب، ونقده طوال القرن العشرين وإلى يوم الناس هذا. إلا أن اللافت للنظر أن يكون المتنورون العرب، ممن يدرجون في سياق النهضة العربية، قد حاولوا أو تطلعوا إلى جعل الأدب علما. وإن كان مفهومهم للعلم يختلف عما نعرفه نحن اليوم من كلمة (العلم)، كما يختلف الآن مفهومنا لـ(الأدب) عن (المفهوم) المتداول بينهم.
ومن الكتب الرائدة التي وصلتنا، من ذاك العهد، كتاب «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب» و«فيكتور هوغو» لروحي الخالدي الذي اهتم بنشره مجددا والتقديم له الناقد فيصل دراج، حيث يورد في التقديم أربعة أبعاد محددة لحداثة الخالدي: البعد الأول: كامن في الربط بين الحرية والإبداع. البعد الثاني: يتحدد في وحدة العلاقات المجتمعية. البعد الثالث: يتجلى في مفهوم السببية الاجتماعية ـ التاريخية. البعد الرابع: وهو من ثوابت الفكر التنويري العربي: الاعتراف بكونية الإبداع الإنساني.
وقد أقر فيصل دراج في هذا التقديم بأن علم الأدب عند روحي الخالدي يقوم على توكيد مفاده أن قراءة الظاهرة الأدبية «علم لا يختلف عن العلوم الأخرى وأن له منهجه وقواعده»، كما يقول دراج في هذا التقديم «وسواء كان النقد الأدبي علما، أم أنه مجرد حقل خاضع للتذوق، فإن في استعمال كلمة علم احتجاجا على الارتجال والأحكام الجاهزة، وابتعادا عن منظور جاهز يقصر الإبداع الشعري على العرب». لقد تشابه الأمر على كثيرين فلم يعودوا قادرين على التمييز بين (الجيد) و(الرديء)، وهذا هو التعريف الأول لعلم النقد الأدبي كما حدده القدماء. إننا نعيش في فوضى صاخبة من المفاهيم والكتابات، ولذلك فنحن في حاجة إلى إعادة النظر في (علم الأدب) كما هو متداول في زماننا، علم يقدر الآن، على تكوين جيل جديد مبتكر خلاق متطور، ينظر إلى البعيد وهو يحيا الحاضر بامتلاء. وقد نكون الآن، أحوج من أي وقت، إلى (علم الأدب) العلم المؤسس على مفاهيم دقيقة دقة الحياة التي نحياها، وعلى أسس جمالية متوهجة توهج العلم الذي ييسر الحياة، في مختلف أنحائها وتجلياتها.
لم يعد، الآن، مستساغا، التعاطي مع الأدب دونما علم به، لا لأن الأدب علم فحسب، بل لأن إجادة هذا العلم قراءة وكتابة، تتطلب الإفاضة فيه للإحاطة به، والإفاضة في الأدب تبدأ بالإبحار في قراءته إلى حدود الاستغراق، للاغتراف من موارده، وما أكثرها، ولاكتساب الثقافة الفكرية المساعدة على فهمه والإفادة منه. والحال أن كثيرين، الآن، يتعاطون الأدبَ باعتباره لعبا، ونحن إن سايرنا هذا الاعتبار وجدناه يعني في فلسفة الجمال المعاصرة، اللعب باعتباره حرية مشروطة في الإبداع بتحقيق الشروط المبدئية للجمال، ولا يمكن لكتابة، كيفما اتفق، أن تسمى أدبا، وهذه الصيغ المكرورة التي لم تعد تدهش أحدا (الحياة لعب) (الحياة حلم) ليست بدون معنى، ومتى حرصنا على المعنى حققنا واحدا من الشروط المبدئية لما نلعبه أو نحلم به. إننا نحلم بأدب جديد يتوافر على أسس جمالية ترتقي بالأسس الجمالية التراثية، وتبني أفقا جديدا لهذه الأسس بما يوافق الحياة التي نحياها، وبما يجعلنا جديرين بعيش هذه الحياة الجديدة الحافلة بروح من سبقنا والآهلة بعطاءاتهم ومنجزاتهم الجمالية في إبداع الأدب ونقده. إن حياة جديدة نحياها ونحس بجدتها لجديرة بأدب جديد يواكبها ويتجاوزها. وليس يسيرا القَبُول بـ(حرية مشروطة)، لكنه، من الصعب القبول بكل ما يكتب باسم الأدب الجديد وليس من جدته، إلا أنه نُشِرَ بطريقة مغايرة للنشر، نشر إلكترونيا، وسمى نفسه أدبا (رقميا)، و(الرقمية) تقوم أساسا على دقة العلم وصرامته ورصانته، أفلا يكون هذا (الأدب الرقمي) بحاجة إلى نظرية أدبية جديدة، يرتادها في المغرب سعيد يقطين وزهور كرام، قائمة على مفاهيم محددة بدقة علمية ورصانة عميقة.
إننا في حاجة إلى الإبداع، وفي حاجة مماثلة إلى من يقرأ هذا الإبداع، نقديا، بطريقة علمية. إننا في حاجة إلى «علم الأدب».
٭ قاص وناقد مغربي
عبداللطيف الزكري