جنازة وردة

البارحة ركضتُ مع أبي وإخوتي في الغابة
كان الوقت صباحاً والمطر أعمى
كان همّي أن أركض وأتدفّأ
وأن تحدثَ لأبي كوارث صغيرة ومسلّية
كأن يسعلَ وتغيم عيناه
فأشيّعه بظلّي وأستولي على ميراث العائلة
أو تخطف الريح قبّعته الشتوية
فأرى رأساً فصيحاً وأشيبَ
أن أتبيّن حزن أبي وسط الغابة
وضحكات إخوتي خلف أبي
أن أجمع المأساة والملهاة في صرّة
وأذهب بالصرّة إلى أمّي التي تركناها تتفوّه أمام التلفاز
أن أعود بإخوتي يلهثون ورائي
مثل كلاب صيدٍ ظريفة
وبأبي معلقاً بحزام سروالي
دون أن أفكر أنّه طريدة
أبي؟ أيّ أبٍ؟
أبي كان فلاحاً بالفطرة
وحطّابَ أحزانٍ بالأقدميّة
شرب ما يكفي من الشاي
وذهب إلى الله عن طيب خاطر
تاركاً الغرفة تقرأ بريد الأحد
على فيوزات اليتم
أعرفه بتقطيبة الحاجبين كلّما تأخّر المطر
بطرقاتٍ عجلى على الباب
وبصوته الذي يسبقه
فأعتدل في جلستي
أعرفه مهما اكتظّت الدوخة في رأسي
ويعرف هو الآخر بأنّي ولدٌ أرعن
أمشط شَعري بأصابعي وأتسلّى بالوردة
أرميها عالياً في الهواء بيدٍ وألتقطها بالأخرى
تتساقط نثراتها على وجهي فأتعطّر
الوردة التي خطفها الرجل السخيف من يدي،
الرجل الذي ركضت معه في الغابة.

٭ شاعر مغربي

جنازة وردة

حسن بولهويشات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بادر سيف / الجزائر:

    شكرا لك حسن شكرا لك….كنت فيما مضى انظر الى كتاباتك بعين فيها شئ من —دون المستوى– ولكنك في هذا النص ابدعت و امتعت فشكرا لك الف شكر بادر سيف الجزائر

  2. يقول ميشرافي عبد الودود:

    يستهل الشاعر المشاكس نصه بجملة خبرية مؤكدة ترمي إلى إيهام القارئ بحقيقية الحدث, لكن بالغوص في النص نكتشف أن الخبر المسوق عن النزهة رفقة الأب ليس سوى حيلة يلجأ إليها الشاعر حتى ينطلي على القراء مجاز القصيدة المصيدة. فلا شيئ حقيقي هنا البتة سوى مخيلة الشاعر العصابية التي تمج أخيلتها القلقة والمرعبة في فضاء الغابة المطيرة, متخذة من الحلم داخل الحلم وسيلة لإضفاء الواقعية على الخيال.
    بشكل غير معلن يتماهى هذا النص مع رؤيا النبي ابراهيم يذبح ابنه ( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى), كما لو أن الثقافة العربية هي تكريس و احتفاء بقتل الابن, يسعى الشاعر إلى إزالة و إزاحة الأب دونما ألم أو ندم (أبي أي أب) والتخلص من سقف قمع العائلة التي لا تكرس بدورها غير العلاقات الجنائزية. لقد أقدم الشاعر رينيه شار في إحدى مقطوعاته على خنق الأخ الأكبر, لا لشيئ إلا لأنه لم يكن يستطيع النوم ونافذة الغرفة مفتوحة, كما تورط دوستويفسكي في جريمة قتل الأب في رواية الإخوة كارامازوف ولو بشكل غير مباشر, هكذا يكرس الشاعر عقوقه وتمرده كبديل للطاعة العمياء التي تسلسل الاخوة مثل كلاب صيد ظريفة (إن بلية الأبناء في هبات الآباء, ومن لم يحرم نفسه من عطايا آبائه وأجداده يظل عبدا للأموات حتى يصير من الأموات_ جبران خليل جبران) , و يتحول الأب إلى أقل من طريدة تتدلى على الحزام, ليس انتقاما متأصلا في الشخصية أو منافسة أوديبية على الأم المتثائبة, بل رغبة من الشاعر أن يضع مزق المأساة والملهاة (القدر الأعمى الذي يوحد الشتات عائلة) جنبا إلى جنب في نفس القماشة, راميا بها إلى هذه الأم الخزانة بينما تتفرج بذهول على فتور المشهد الإعتيادي.
    كما في قصة النبي ابراهيم الذي تصدق رؤياه من غير فعل الذبح ويتحقق الفداء الإلاهي ( وفديناه بذبح عظيم), تصدق رؤيا الشاعر الطفل بأن يفتدى بوردة جنازة.
    إن هذا الأب الذي ولد فلاحا وانقلب مع مرور الزمن إلى حطاب في غابة الوجع, ليس الآن سوى صورة معلقة على الجدار تترك إطارها من حين لآخر متجولة في أرجاء الغرفة, فالأب قد شرب ما يكفي من الشاي وقرر الرحيل عن طيب خاطر, وترك االبيت يطفح بالضياع واليتم.
    يكتب بولهيشات بإيلامية و عدم تسامح , إنها القسوة الضرورية للكتابة التي تقشر و تكشط بسكاكينها حراشف الواقع الصلبة بحثا عن الطزاجة الحارقة, قسوة على الذات قبل الآخر, ووجها آخر للحب .

إشترك في قائمتنا البريدية